فصل: فصل: انفساخ الإجارة بموت المرضعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وكذلك الظئر ‏]‏

يعني أنه يجوز استئجارها بطعامها وكسوتها وقد ذكرنا ذلك‏,‏ والخلاف فيه وأجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر وهي‏:‏ المرضعة وهو في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏}‏ واسترضع النبي -صلى الله عليه وسلم- لولده إبراهيم ولأن الحاجة تدعو إليه فوق دعائها إلى غيره‏,‏ فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع وقد يتعذر رضاعه من أمه فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع‏,‏ ثم ننظر فإن استأجرها للرضاع دون الحضانة أو للحضانة دون الرضاع أو لهما‏,‏ جاز وإن أطلق العقد على الرضاع فهل تدخل فيه الحضانة‏؟‏ فيه وجهان أحدهما لا تدخل وهو قول أبي ثور وابن المنذر لأن العقد ما تناولها والثاني‏:‏ تدخل وهو قول أصحاب الرأي لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي‏,‏ فحمل الإطلاق على ما جرى به العرف والعادة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين والحضانة‏:‏ تربية الصبي وحفظه‏,‏ وجعله في سريره وربطه ودهنه‏,‏ وكحله وتنظيفه وغسل خرقه‏,‏ وأشباه ذلك واشتقاقه من الحضن وهو ما تحت الإبط وما يليه وسميت التربية حضانة تجوزا‏,‏ من حضانة الظئر لبيضه وفراخه لأنه يجعلها تحت جناحيه فسميت تربية الصبي بذلك أخذا من فعل الطائر‏.‏

فصل‏:

ويشترط لهذا العقد أربعة شروط أحدها أن تكون مدة الرضاع معلومة لأنه لا يمكن تقديره إلا بها فإن السقي والعمل فيها يختلف الثاني معرفة الصبي بالمشاهدة لأن الرضاع يختلف باختلاف الصبي‏,‏ في كبره وصغره ونهمته وقناعته وقال القاضي‏:‏ يعرف بالصفة كالراكب الثالث‏,‏ موضع الرضاع لأنه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها الرابع‏,‏ معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق‏.‏

فصل‏:‏

واختلف في المعقود عليه في الرضاع‏,‏ فقيل‏:‏ هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه واللبن تبع كالصبغ في إجارة الصباغ وماء البئر في الدار لأن اللبن عين من الأعيان‏,‏ فلا يعقد عليه في الإجارة كلبن غير الآدمي وقيل‏:‏ هو اللبن قال القاضي‏:‏ هو أشبه لأنه المقصود دون الخدمة ولهذا لو أرضعته دون أن تخدمه‏,‏ استحقت الأجرة ولو خدمته بدون الرضاع لم تستحق شيئا‏,‏ ولأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏}‏ فجعل الأجر مرتبا على الإرضاع فيدل على أنه المعقود عليه ولأن العقد لو كان على الخدمة لما لزمها سقيه لبنها وأما كونه عينا‏,‏ فإنما جاز العقد عليه في الإجارة رخصة لأن غيره لا يقوم مقامه والضرورة تدعو إلى استيفائه وإنما جاز هذا في الآدميين دون سائر الحيوان‏,‏ للضرورة إلى حفظ الآدمي والحاجة إلى إبقائه‏.‏

فصل‏:‏

وعلى المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها ويصلح به‏,‏ وللمكتري مطالبتها بذلك لأنه من تمام التمكين من الرضاع وفي تركه إضرار بالصبي ومتى لم ترضعه وإنما أسقته لبن الغنم‏,‏ أو أطعمته فلا أجر لها لأنها لم توف المعقود عليه فأشبه ما لو اكتراها لخياطة ثوب‏,‏ فلم تخطه وإن دفعته إلى خادمتها فأرضعته فكذلك وبه قال أبو ثور وقال أصحاب الرأي‏:‏ لها أجرها لأن رضاعه حصل بفعلها ولنا أنها لم ترضعه فأشبه ما لو سقته لبن الغنم وإن اختلفا‏,‏ فقالت‏:‏ أرضعته فأنكر المسترضع فالقول قولها لأنها مؤتمنة‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز للرجل أن يؤجر أمته ومدبرته‏,‏ وأم ولده ومن علق عتقها بصفة والمأذون لها في التجارة‏,‏ للإرضاع لأنه عقد على منفعتها أشبه إجارتها للخدمة وليس لواحدة منهن إجارة نفسها لأن نفعها لسيدها وإن كان لها ولد لم تجز إجارتها للإرضاع‏,‏ إلا أن يكون لبنها فضل عن ريه لأن الحق لولدها وليس لسيدها إلا ما فضل عنه وإن كانت مزوجة لم تجز إجارتها لذلك إلا بإذنه لأنه يفوت حق الزوج‏,‏ لاشتغالها عنه بإرضاع الصبي وحضانته فإن أجرها للرضاع ثم زوجها صح النكاح‏,‏ ولا ينفسخ عقد الإجارة ويكون للزوج أن يستمتع بها في حال فراغها من الرضاع والحضانة وقال مالك‏:‏ ليس لزوجها وطؤها إلا برضى المستأجر لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه ولنا أن وطء الزوج مستحق‏,‏ فلا يسقط لأمر مشكوك فيه وليس للسيد إجارة مكاتبته لأن منافعها إليها ولذلك لم يملك سيدها تزويجها ولا وطأها‏,‏ ولا إجارتها في غير الرضاع ولها أن تؤجر نفسها لأنه من جهات الاكتساب‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز للرجل استئجار أمه وأخته وابنته‏,‏ لرضاع ولده وكذلك سائر أقاربه بغير خلاف وإن استأجر امرأته لرضاع ولده منها‏,‏ جاز هذا الصحيح من مذهب أحمد وذكره الخرقي فقال‏:‏ وإن أرادت الأم أن ترضعه بأجر مثلها فهي أحق به من غيرها‏,‏ سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقته وقال القاضي‏:‏ ليس لها ذلك وتأول كلام الخرقي على أنها في حبال زوج آخر وهذا قول أصحاب الرأي وحكي عن الشافعي لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض فلا يجوز أن يلزمه عوض آخر لذلك ولنا أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج يصح أن تعقده معه‏,‏ كالبيع ولأن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج بدليل أنه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها‏,‏ ويجوز لها أن تأخذ عليها العوض من غيره فجاز لها أخذه منه كثمن مالها وقولهم‏:‏ إنها استحقت عوض الحبس والاستمتاع قلنا‏:‏ هذا غير الحضانة‏,‏ واستحقاق منفعة من وجه لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر كما لو استأجرها أولا ثم تزوجها وتأويل القاضي كلام الخرقي‏,‏ يخالف الظاهر من وجهين أحدهما أن الألف واللام في الزوج للمعهود وهو زوجها أبو الطفل والثاني أنها إذا كانت في حبال زوج آخر لا تكون أحق به‏,‏ بل يسقط حقها من الحضانة ثم ليس لها أن ترضع إلا بإذن زوجها ففسد التأويل‏.‏

فصل‏:‏

وتنفسخ الإجارة بموت المرضعة لفوات المنفعة بهلاك محلها وحكي عن أبي بكر‏:‏ أنها لا تنفسخ‏,‏ ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لأنه كالدين ولنا أنه هلك المعقود عليه أشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة وإن مات الطفل انفسخ العقد لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه‏,‏ لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم فإنه قد يدر على أحد الولدين دون الآخر وهذا منصوص الشافعي وإذا انفسخ العقد عقيبه‏,‏ بطلت الإجارة من أصلها ورجع المستأجر بالأجر كله وإن كان في أثناء المدة‏,‏ رجع بحصة ما بقي‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء في الخبر إذا كان المسترضع موسرا ‏]‏

يعني بالخبر‏,‏ ما روى أبو داود بإسناده عن هشام بن عروة‏,‏ عن أبيه عن حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏قلت‏:‏ يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع‏؟‏ قال‏:‏ الغرة العبد أو الأمة‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح قال ابن الجوزي‏:‏ المذمة بكسر الذال‏,‏ من الذمام وبفتحها من الذم قال ابن عقيل‏:‏ إنما خص الرقبة بالمجازاة بها دون غيرها لأن فعلها في إرضاعه وحضانته سبب حياته وبقائه وحفظ رقبته‏,‏ فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة ليناسب ما بين النعمة والشكر ولهذا جعل الله تعالى المرضعة أما‏,‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم‏}‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيعتقه‏)‏ وإن كانت المرضعة مملوكة استحب إعتاقها لأنه يحصل أخص الرقاب بها‏,‏ وتحصل به المجازاة التي جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- مجازاة للوالد من النسب‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه فعليه الأجرة المذكورة‏,‏ وأجرة المثل لما جاوزه وإن تلفت فعليه أيضا قيمتها ‏]‏

الكلام في هذه المسألة في فصلين‏:‏

أحدهما‏:

في الأجر الواجب وهو المسمى‏,‏ وأجر المثل للزائد نص عليه أحمد ولا خلاف فيه بين أصحابنا ذكر القاضي ذلك وروى الأثرم بإسناده عن أبي الزناد أنه ذكر فقهاء المدينة السبعة‏,‏ وقال‏:‏ ربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا فكان الذي وعيت عنهم على هذه الصفة‏,‏ أن من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز ذلك إلى بلد سواه فإن الدابة إن سلمت في ذلك كله‏,‏ أدى كراءها وكراء ما بعدها وإن تلفت في تعديه بها ضمنها وأدى كراءها الذي تكاراها به وهذا قول الحكم‏,‏ وابن شبرمة والشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة‏:‏ لا أجر عليه لما زاد لأن المنافع عندهما لا تضمن في الغصب وحكي عن مالك أنه إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة‏,‏ يخير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي لأنه متعد بإمساكها حابس لها عن أسواقها فكان لصاحبها تضمينها إياه ولنا أن العين باقية بحالها‏,‏ يمكن أخذها فلم تجب قيمتها كما لو كانت المسافة قريبة وما ذكره تحكم لا دليل عليه‏,‏ ولا نظير له فلا يجوز المصير إليه وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة في الغصب

الفصل الثاني‏:‏

في الضمان ظاهر كلام الخرقي وجوب قيمتها إذا تلفت به‏,‏ سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة وسواء كان صاحبها مع المكتري‏,‏ أو لم يكن وهذا ظاهر مذهب الفقهاء السبعة إذا تلفت حال التعدي لما حكينا عنهم وقال القاضي‏:‏ إن كان المكتري نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها‏,‏ فتلفت فلا ضمان على المكتري وإن هلكت والمكتري راكب عليها‏,‏ أو حمله عليها فعليه ضمانها وقال أبو الخطاب‏:‏ إن كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكتري جميع قيمتها‏,‏ واحتمل أن يلزمه نصف قيمتها وقال أصحاب الشافعي‏:‏ إن لم يكن صاحبها معها لزم المكتري قيمتها كلها وإن كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكتري لأنها تلفت في يد صاحبها‏,‏ أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي وإن تلفت تحت الراكب ففيه قولان أحدهما يلزمه نصف قيمتها لأنها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها والثاني تقسط القيمة على المسافتين فما قابل مسافة الإجارة سقط‏,‏ ووجب الباقي ونحو هذا قول أبي حنيفة فإنه قال‏:‏ من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة‏,‏ فتلف فعلى المكتري عشر قيمته وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها فأما إذا تلفت حال التعدي‏,‏ ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها بكمال قيمتها لأنها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمغصوبة وكذلك إذا تلفت تحت الراكب‏,‏ أو تحت حمله وصاحبها معها لأن اليد للراكب وصاحب الحمل بدليل أنهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها‏,‏ أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها لكانت للراكب ولصاحب الحمل ولأن الراكب متعد بالزيادة‏,‏ وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان كمن جلس إلى إنسان فحرق ثيابه وهو ساكت ولأنها إن تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدي‏,‏ كمن ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقها فأما إن تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر فإن كان تلفها بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب‏,‏ وإن تلفت بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لأنها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان وقولهم‏:‏ تلفت بفعل مضمون وغير مضمون‏,‏ أشبه ما لو تلفت بجراحتين يبطل بما إذا قطع السارق ثم قطع آخر يده عدوانا فمات منهما‏,‏ وفارق ما إذا جرح نفسه وجرحه غيره لأن الفعلين عدوان فقسم الضمان عليهما‏.‏

فصل‏:

ولا يسقط الضمان بردها إلى المسافة وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف‏,‏ والشافعي وقال محمد‏:‏ يسقط كما لو تعدى في الوديعة ثم ردها ولنا أنها يد ضامنة‏,‏ فلا يزول الضمان عنها إلا بإذن جديد ولم يوجد وما ذكروه في الوديعة لا نسلمه إلا أن يردها إلى مالكها أو يجدد له إذنا‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ وكذلك إن اكترى لحمولة شيء‏,‏ فزاد عليه ‏]‏

وجملة ذلك أن من اكترى لحمل شيء فزاد عليه مثل أن يكتريها لحمل قفيزين‏,‏ فحمل ثلاثة فحكمه حكم من اكترى إلى موضع فجاوزه في وجوب الأجر‏,‏ وأجر المثل لما زاد ولزوم الضمان إن تلفت هذا قول الشافعي وحكى القاضي أن قول أبي بكر في هذه المسألة وجوب أجر المثل في الجميع وأخذه من قوله في من استأجر أرضا ليزرعها شعيرا‏,‏ فزرعها حنطة قال عليه أجر المثل للجميع لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره فأشبه ما لو استأجر أرضا‏,‏ فزرع أخرى فجمع القاضي بين مسألة الخرقي ومسألة أبي بكر وقال‏:‏ ينقل قول كل واحد من إحدى المسألتين إلى الأخرى لتساويهما في أن الزيادة لا تتميز‏,‏ فيكون في المسألتين وجهان وليس الأمر كذلك فإن بين المسألتين فرقا ظاهرا فإن الذي حصل التعدي فيه في الحمل متميز عن المعقود عليه‏,‏ وهو القفيز الزائد بخلاف الزرع ولأنه في مسألة الحمل استوفى المنفعة المعقود عليها وزاد‏,‏ وفي الزرع لم يزرع ما وقع العقد عليه ولهذا علله أبو بكر بأنه عدل عن المعقود عليه ولا يصح هذا القول في مسألة الحمل‏,‏ فإنه قد حمل المعقود عليه وزاد عليه بل إلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى مسافة فزاد عليها أشد وشبهها بها أشد‏,‏ ولأنه في مسألة الحمل متعد بالزيادة وحدها وفي مسألة الزرع متعد بالزرع كله فأشبه الغاصب فأما مسألة الزرع فيما إذا اكترى أرضا ليزرع الشعير‏,‏ فزرع حنطة فقد نص أحمد في رواية عبد الله‏,‏ فقال‏:‏ ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فيعطي رب الأرض فجعل هذه المسألة كمسألتي الخرقي في إيجاب المسمى وأجر المثل للزائد ووجهه أنه لما عين الشعير‏,‏ لم يتعين ولم يتعلق العقد بعينه كما سبق ذكره‏,‏ ولهذا قلنا‏:‏ له زرع مثله وما هو دونه في الضرر فإذا زرع حنطة فقد استوفى حقه وزيادة‏,‏ أشبه ما لو اكتراها إلى موضع فجاوزه وقال أبو بكر‏:‏ له أجر المثل وعلله بأنه عدل عن المعقود عليه فإن الحنطة ليست شعيرا وزيادة وإن قلنا‏:‏ إنه قد استوفى المعقود عليه وزيادة غير أن الزيادة ليست متميزة عن المعقود عليه بخلاف مسألتي الخرقي وقال الشافعي‏:‏ المكتري يخير بين أخذ الكراء وما نقصت الأرض عما ينقصها الشعير‏,‏ وبين أخذ كراء مثلها للجميع لأن هذه المسألة أخذت شبها من أصلين‏:‏ أحدهما إذا ركب دابة فجاز بها المسافة المشروطة لكونه استوفى المعقود عليه وزيادة والثاني إذا استأجر أرضا فزرع غيرها لأنه زرع متعديا فلهذا خيره بينهما ولأنه وجد سبب يقتضي كل واحد من الحكمين‏,‏ وتعذر الجمع بينهما فكان له أوفرهما وفوض اختياره إلى المستحق كقتل العمد ومن نصر أبا بكر‏,‏ قال‏:‏ هذا متعد بالزرع كله فكان عليه أجر المثل كالغاصب‏,‏ ولهذا يملك رب الأرض منعه من زرعه ويملك أخذه بنفقته إذا زرعه ويفارق من زاد على حقه زيادة متميزة فإنه غير متعد بالجميع‏,‏ إنما تعدى بالزيادة وحدها ولهذا لا يملك المكري منعه من الجميع ونظير هاتين المسألتين من اكترى غرفة ليجعل فيها أقفزة حنطة‏,‏ فترك فيها أكثر منها ومن اكتراها ليجعل فيها قنطارا من القطن فجعل فيها قنطارا من حديد‏,‏ ففي الأولى له المسمى وأجر الزيادة وفي الثانية يخرج فيها من الخلاف مثل ما قلنا في مسألة الزرع وحكم المستأجر الذي يزرع أضر مما اكترى له حكم الغاصب‏,‏ لرب الأرض منعه في الابتداء لما يلحقه من الضرر فإن زرع فرب الأرض مخير بين ترك الزرع بالأجر‏,‏ وبين أخذه ودفع النفقة وإن لم يعلم حتى أخذ المستأجر زرعه فله الأجرة لا غير‏,‏ على ما ذكرنا في باب الغصب‏.‏

فصل‏:‏

وإن اكترى دابة إلى مسافة ، فسلك أشق منها ، فهي مثل مسألة الزرع ، يخرج فيها وجهان ، قياس المنصوص عن أحمد ، أن له الأجر المسمى وزيادة ، لكون المسافة لا تتعين على قول أصحابنا ، وقياس قول أبي بكر ، أن له أجر المثل ؛ لأن الزيادة غير متميزة ، ولأنه متعد بالجميع ، بدليل أن لرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق كلها ، بخلاف من سلك تلك الطريق وجاوز ، فإنه إنما يمنعه الزيادة لا غير . وإن اكترى لحمل قطن فحمل بوزنه حديدا ، أو لحمل حديد فحمل قطنا ، فالصحيح أن عليه أجر المثل هاهنا ؛ لأن ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر ، فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الإجارة وزيادة عليه ، بخلاف ما قبلها من المسائل . وسائر مسائل العدوان في الإجارة يقاس على ما ذكرنا من المسائل ما كان متميزا ، وما لم يكن متميزا فتلحق كل مسألة بنظيرتها والله أعلم.

فصل‏:‏

إذا أكراه لحمل قفيزين فحملهما فوجدهما ثلاثة‏,‏ فإن كان المكتري تولى الكيل ولم يعلم المكري بذلك فحكمه حكم من اكترى لحمولة شيء فزاد عليه وإن كان المكري تولى كيله وتعبئته ولم يعلم المكتري‏,‏ فهو غاصب لا أجر له في حمل الزائد وإن تلفت دابته فلا ضمان لها لأنها تلفت بعدوان صاحبها وحكمه في ضمان الطعام‏,‏ حكم من غصب طعام غيره وإن تولى ذلك أجنبي ولم يعلم المكري والمكتري فهو متعد عليهما‏,‏ يلزمه لصاحب الدابة الأجر ويتعلق به الضمان ويلزمه لصاحب الطعام ضمان طعامه‏,‏ وسواء كاله أحدهما ووضعه الآخر على ظهر الدابة أو كان الذي كاله وعبأه وضعه على ظهرها وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين‏:‏ إذا كاله المكتري ووضعه المكري على ظهر البهيمة‏,‏ لا ضمان على المكتري لأن المكري مفرط في حمله ولنا أن التدليس من المكتري إذ أخبره بكيلها على خلاف ما هو به فلزمه الضمان‏,‏ كما لو أمر أجنبيا بتحميلها فأما إن كالها المكتري ورفعها المكري على الدابة عالما بكيلها لم يضمن المكتري دابته إذا تلفت لأنه فعل ذلك من غير تدليس ولا تغرير وهل له أجر القفيز الزائد‏؟‏ يحتمل وجهين أحدهما لا أجر له لأن المكتري لم يجعل له على ذلك أجرا والثاني له أجر الزائد‏,‏ لأنهما اتفقا على حمله على سبيل الإجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير أجره وإن كاله المكري وحمله المكتري على الدابة عالما بذلك من غير أن يأمره بحمله عليها‏,‏ فعليه أجر القفيز الزائد وإن أمره بحمله عليها ففي وجوب الأجر وجهان كما لو حمله المكري عليها لأنه إذا أمر به كان ذلك كفعله‏,‏ وإن كاله أحدهما وحمله أجنبي بأمره فهو كما لو حمله الذي كاله وإن كان بأمر الآخر‏,‏ فهو كما لو حمله الآخر وإن حمله بغير أمرهما فهو كما لو كاله ثم حمله‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يجوز أن يكتري مدة غزاته ‏]‏

هذا قول أكثر أهل العلم‏,‏ منهم الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك‏:‏ قد عرف وجه ذلك‏,‏ وأرجو أن يكون حقيقا ولنا أن هذه إجارة في مدة مجهولة وعمل مجهول‏,‏ فلم يجز كما لو اكتراها لمدة سفره في تجارته ولأن مدة الغزاة تطول وتقصر‏,‏ ولا حد لها تعرف به والعمل فيها يقل ويكثر ونهاية سفرهم تقرب وتبعد‏,‏ فلم يجز التقدير بها كغيرها من الأسفار المجهولة فإن فعل ذلك فله أجر المثل لأنه عقد على عوض لم يسلم له‏,‏ لفساد العقد فوجب أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فإن سمى لكل يوم شيئا معلوما‏,‏ فجائز ‏]‏

وجملته أن من اكترى فرسا مدة غزوه كل يوم بدرهم فالمنصوص عن أحمد صحته وقال الشافعي‏:‏ هذا فاسد لأن مدة الإجارة مجهولة، ولنا‏ أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه كل دلو بتمرة وكذلك الأنصاري‏,‏ ولم ينكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأن كل يوم معلوم مدته وأجرته فصح كما لو قال‏:‏ أجرتكها شهرا‏,‏ كل يوم بدرهم أو قال‏:‏ استأجرتك لنقل هذه الصبرة كل قفيز بدرهم ولا بد من تعيين ما يستأجر له إما لركوب‏,‏ أو حمل معلوم ويستحق الأجر المسمى لكل يوم سواء كانت مقيمة أو سائرة لأن المنافع ذهبت في مدته فأشبه ما لو اكترى دارا‏,‏ فأغلقها ولم يسكنها‏ وإن أجر نفسه لسقي نخل كل دلو بتمرة أو بفلس أو أجر معلوم جاز للأثر الوارد فيه ولأن كل عمل معلوم له عوض معلوم فجاز كما لو سمى دلاء معروفة، ولا بد من معرفة الدلو والبئر وما يستسقى به لأن العمل يختلف به.‏

فصل‏:‏

ونقل أبو الحارث عن أحمد في رجل استأجر دابة في عشرة أيام‏,‏ بعشرة دراهم فإن حبسها أكثر من ذلك فله بكل يوم درهم‏,‏ فهو جائز ونقل ابن منصور عنه في من اكترى دابة من مكة إلى جدة بكذا فإن ذهب إلى عرفات بكذا‏,‏ فلا بأس ونقل عبد الله عنه لو قال‏:‏ أكريتكها بعشرة فما حبسها فعليه كل يوم عشرة وهذه الروايات تدل على أن مذهبه أنه متى قدر لكل عمل معلوم أجرا معلوما صح وتأول القاضي هذا كله على أنه يصح في الأول ويفسد في الثاني لأن مدته غير معلومة‏,‏ فلم يصح العقد فيه كما لو قال‏:‏ استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة‏,‏ بدرهم وما زاد فبحسبان ذلك والظاهر خلاف هذا فإن قوله‏:‏ فهو جائز عاد إلى جميع ما ذكر قبله وكذلك قوله‏:‏ لا بأس ولأن لكل عمل عوضا معلوما‏,‏ فصح كما لو استقى له كل دلو بتمرة وقد ثبت الأصل بالخبر الوارد فيه‏,‏ ومسألة الصبرة لا نص فيها عن الإمام وقياس نصوصه صحة الإجارة وإن سلم فسادها فلأن القفزان التي شرط حملها غير معلومة بتعيين ولا صفة‏,‏ وهي مختلفة فلم يصح العقد لجهالتها بخلاف الأيام‏,‏ فإنها معلومة‏.‏

فصل‏:

وإن قال‏:‏ إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فعن أحمد فيه روايتان إحداهما لا يصح‏,‏ وله أجر المثل نقلها أبو الحارث عن أحمد وهذا مذهب مالك والثوري‏,‏ والشافعي وإسحاق وأبي ثور لأنه عقد واحد‏,‏ اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال‏:‏ بعتك نقدا بدرهم أو بدرهمين نسيئة والثانية يصح وهو قول الحارث العكلي‏,‏ وأبي يوسف ومحمد لأنه سمى لكل عمل عوضا معلوما فصح‏,‏ كما لو قال‏:‏ كل دلو بتمرة وقال أبو حنيفة‏:‏ إن خاطه اليوم فله درهم وإن خاطه غدا لا يزاد على درهم ولا ينقص عن نصف درهم لأن المؤجر قد جعل له نصف درهم‏,‏ فلا ينقص منه وهو قد رضي في أكثر العملين بدرهم فلا يزاد عنه وهذا لا يصح لأنه إن صح العقد فله المسمى‏,‏ وإن فسد فوجوده كالعدم ويجب أجر المثل كسائر العقود الفاسدة‏.‏

فصل‏:‏

وإن قال‏:‏ إن خطته روميا فلك درهم‏,‏ وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم ففيها وجهان بناء على التي قبلها والخلاف فيها كالتي قبلها إلا أن أبا حنيفة وافق صاحبيه في الصحة ها هنا ولنا أنه عقد معاوضة لم يتعين فيه العوض ولا المعوض فلم يصح كما لو قال‏:‏ بعتك هذا بدرهم‏,‏ أو هذا بدرهمين وفارق هذا ‏"‏ كل دلو بتمرة ‏"‏ من وجهين أحدهما أن العمل الثاني ينضم إلى العمل الأول ولكل واحد منهما عوض مقدر‏,‏ فأشبه ما لو قال‏:‏ بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وها هنا الخياطة واحدة شرط فيها عوضا إن وجدت على صفة وعوضا آخر إن وجدت على أخرى‏,‏ فأشبه ما لو باعه بعشرة صحاح أو أحد عشر مكسرة والثاني أنه وقف الإجارة على شرط بقوله‏:‏ إن خطته كذا فلك كذا‏,‏ وإن خطته كذا فلك كذا بخلاف قوله‏:‏ كل دلو بتمرة‏.‏

فصل‏:‏

فصل : ونقل مهنا ، عن أحمد في من استأجر من حمال إلى مصر بأربعين دينارا ، فإن نزل دمشق فكراؤه ثلاثون ، فإن نزل الرقة فكراؤه عشرون . فقال إذا اكترى إلى الرقة بعشرين ، واكترى إلى دمشق بعشرة ، واكترى إلى مصر بعشرة ، جاز ، ولم يكن للحمال أن يرجع . فظاهر هذا ، أنه لم يحكم بصحة العقد الأول ؛ لأنه في معنى بيعتين في بيعة ، لكونه خيره بين ثلاثة عقود . ويخرج فيه أن يصح بناء على المسألتين قبل هذا ونقل البرزاطي ، عن أحمد ، في رجل استأجر رجلا يحمل له كتابا إلى الكوفة ، وقال : إن وصلت الكتاب يوم كذا وكذا فلك عشرون ، وإن تأخرت بعد ذلك بيوم فلك عشرة . فالإجارة فاسدة ، وله أجر مثله . وهذا مثل الذي قبله . ونقل عبد الله ، في من اكترى دابة ، وقال : إن رددتها غدا فكراؤها عشرة ، وإن رددتها اليوم فكراؤها خمسة . فلا بأس . وهذه الرواية تدل على صحة الإجارة ، والظاهر عن أحمد ، في رواية الجماعة ، فيما ذكرنا ، فساد العقد ، وهو قياس بيعتين في بيعة . والله أعلم .

فصل‏:‏

في مسائل الصبرة وفيها عشر مسائل أحدها‏,‏ قال استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة إلى مصر بعشرة فالإجارة صحيحة بغير خلاف نعلمه لأن الصبرة معلومة بالمشاهدة التي يجوز بيعها بها فجاز الاستئجار عليها‏,‏ كما لو علم كيلها الثانية قال‏:‏ استأجرتك لتحملها لي كل قفيز بدرهم فيصح أيضا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يصح في قفيز ويبطل فيما زاد ومبنى الخلاف على الخلاف في بيعها‏,‏ وقد ذكرناه الثالثة قال‏:‏ لتحملها لي قفيزا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك فيجوز‏,‏ كما لو قال‏:‏ كل قفيز بدرهم وكذلك كل لفظ يدل على إرادة حمل جميعها كقوله‏:‏ لتحمل منها قفيزا بدرهم وسائرها أو باقيها بحساب ذلك أو قال‏:‏ وما زاد بحساب ذلك يريد به باقيها كله‏,‏ إذا فهما ذلك من اللفظ لدلالته عندهما عليه أو لقرينة صرفت إليه الرابعة‏,‏ قال‏:‏ لتحمل منها قفيزا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك يريد مهما حملت من باقيها فلا يصح ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المعقود عليه بعضها‏,‏ وهو مجهول ويحتمل أن يصح لأنه في معنى كل دلو بتمرة الخامسة قال‏:‏ لتنقل لي منها كل قفيز بدرهم فهي كالرابعة سواء السادسة قال‏:‏ لتحمل منها قفيزا بدرهم‏,‏ على أن تحمل الباقي بحساب ذلك فلا يصح لأنه في معنى بيعتين في بيعة ويحتمل أن يصح لأن معناه لتحمل لي كل قفيز منها بدرهم السابعة قال‏:‏ لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وتنقل لي صبرة أخرى في البيت بحساب ذلك فإن كانا يعلمان الصبرة التي في البيت بالمشاهدة صح فيهما لأنهما كالصبرة الواحدة‏,‏ وإن جهلها أحدهما صح في الأولى وبطل في الثانية لأنهما عقدان أحدهما على معلوم والثاني على مجهول‏,‏ فصح في المعلوم وبطل في المجهول كما لو قال‏:‏ بعتك عبدي هذا بعشرة وعبدي الذي في البيت بعشرة الثامنة‏,‏ قال‏:‏ لتحمل لي هذه الصبرة والتي في البيت بعشرة فإن كانا يعلمان التي في البيت صح فيهما وإن جهلاها‏,‏ بطل فيهما لأنه عقد واحد بعوض واحد على معلوم ومجهول‏,‏ بخلاف التي قبلها فإن كانا يعلمان التي في البيت لكنها مغصوبة أو امتنع تصحيح العقد فيها لمانع اختص بها‏,‏ بطل العقد فيها وفي صحته في الأخرى وجهان بناء على تفريق الصفقة إلا أنهما إن كانت قفزانهما معلومة‏,‏ أو قدر أحدهما معلوما من الأخرى فالأولى صحته لأن قسط الأجر فيها معلوم وإن لم يكن كذلك‏,‏ فالأولى بطلانه لجهالة العوض فيها التاسعة قال‏:‏ لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة‏,‏ بدرهم فإن زادت على ذلك فالزائد بحساب ذلك صح في العشرة لأنها معلومة‏,‏ ولم يصح في الزيادة لأنها مشكوك فيها ولا يجوز العقد على ما يشك فيه العاشرة قال‏:‏ لتحمل لي هذه الصبرة‏,‏ كل قفيز بدرهم فإن قدم لي طعام فحملته فبحساب ذلك صح أيضا في الصبرة‏,‏ وفسد في الزيادة لما ذكرناه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين والمحامل‏,‏ والأغطية والأوطئة لم يجز الكراء ‏]‏

أجمع أهل العلم على إجازة كراء الإبل إلى مكة وغيرها‏,‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها‏}‏ ولم يفرق بين المملوكة والمكتراة وروى عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم‏}‏‏:‏ أن تحج وتكري ونحوه عن ابن عمر ولأن بالناس حاجة إلى السفر‏,‏ وقد فرض الله تعالى عليهم الحج وأخبر أنهم يأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق وليس لكل أحد بهيمة يملكها ولا يقدر على معاناتها‏,‏ والقيام بها والشد عليها فدعت الحاجة إلى استئجارها‏,‏ فجاز دفعا للحاجة إذا ثبت هذا فمن شرط صحة العقد معرفة المتعاقدين ما عقدا عليه لأنه عقد معاوضة محضة‏,‏ فكان من شرطه المعرفة للمعقود عليه كالبيع فأما الجمال فيحتاج إلى معرفة الراكبين والآلة التي يركبون فيها‏,‏ من محمل أو محارة وغيرها وإن كان مقتبا ذكره وهل يكون مغطى أو مكشوفا‏,‏ فإن كان مغطى احتيج إلى معرفة الغطاء ويحتاج إلى معرفة الوطاء الذي يوطأ به المحمل والمعاليق التي معه من قربة وسطيحة وسفرة ونحوها‏,‏ وذكر سائر ما يحمل معه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر‏,‏ إلا أن الشافعي قال‏:‏ يجوز إطلاق غطاء المحمل لأنه لا يختلف اختلافا متباينا وحكي عنه في المعاليق قول أنه يجوز إطلاقها وتحمل على العرف وحكي عن مالك‏,‏ أنه يجوز إطلاق الراكبين لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قال‏:‏ في المحمل رجلان وما يصلحهما من الوطاء والدثر جاز استحسانا لأن ذلك يتقارب في العادة فحمل على العادة‏,‏ كالمعاليق وقال القاضي في غطاء المحمل كقول الشافعي ولنا أن هذا يختلف ويتباين كثيرا فاشترطت معرفته‏,‏ كالطعام الذي يحمل معه وقولهم‏:‏ إن أجسام الناس متقاربة لا يصح فإن منهم الكبير والصغير والطويل والقصير والسمين والهزيل‏,‏ والذكر والأنثى ويختلفون بذلك ويتباينون كثيرا‏,‏ ويتفاوتون أيضا في المعاليق فمنهم من يكثر الزاد والحوائج ومنهم من يقنع باليسير‏,‏ ولا عرف له يرجع إليه فاشترطت معرفته كالمحمل والأوطئة وكذلك غطاء المحمل‏,‏ من الناس من يختار الواسع الثقيل الذي يشتد على الحمل في الهواء ومنهم من يقنع بالضيق الخفيف فتجب معرفته‏,‏ كسائر ما ذكرنا وأما المستأجر فيحتاج إلى معرفة الدابة التي يركب عليها لأن الغرض يختلف بذلك وتحصل بأحد أمرين إما بالرؤية‏,‏ فيكتفى بها لأنها أعلى طرق العلم إلا أن يكون مما يحتاج إلى معرفة صفة المسمى فيه كالراهول وغيره‏,‏ فإما أن يجربه فيعلم ذلك برؤيته وإما أن يصفه وإما بالصفة‏,‏ فإذا وجدت اكتفى بها لأنه يمكن ضبطه بالصفة فجاز العقد عليه كالبيع‏.‏ وإذا استأجر بالصفة للركوب‏,‏ احتاج إلى ذكر الجنس فيقول‏:‏ إبل أو خيل‏,‏ أو بغال أو حمير والنوع فيقول‏:‏ بختي أو عربي وفي الخيل‏:‏ عربي أو برذون وفي الحمير‏:‏ مصري أو شامي وإن كان في النوع ما يختلف‏,‏ كالمهملج من الخيل والقطوف احتيج إلى ذكره وذكر القاضي أنه يحتاج إلى معرفة الذكورية والأنوثية وهو مذهب الشافعي لأن الغرض يختلف بذلك‏,‏ فإن الأنثى أسهل والذكر أقوى ويحتمل أنه لا يحتاج إلى معرفة ذلك لأن التفاوت فيه يسير ومتى كان الكراء إلى مكة فالصحيح أنه لا يحتاج إلى ذكر الجنس ولا النوع لأن العادة أن الذي يحمل عليه في طريق مكة إنما هو الجمال العراب‏,‏ دون البخاتي‏.‏

فصل‏:‏

وإذا كان الكراء إلى مكة أو طريق لا يكون السير فيه إلى اختيار المتكاريين فلا وجه لذكر تقدير السير فيه لأن ذلك ليس إليهما‏,‏ ولا مقدورا عليه لهما وإن كان في طريق السير فيه إليهما استحب ذكر قدر السير في كل يوم فإن أطلق وللطريق منازل معروفة جاز العقد عليه مطلقا لأنه معلوم بالعرف ومتى اختلفا في ذلك‏,‏ وفي ميقات السير ليلا أو نهارا أو في موضع المنزل إما في داخل البلد أو خارج منه‏,‏ حملا على العرف كما لو أطلقا الثمن في بلد فيه نقد معروف وإن لم يكن للطريق عرف وأطلقا العقد‏,‏ فقال القاضي‏:‏ لا يصح كما لو أطلقا الثمن في بلد لا عرف فيه والأولى أن هذا ليس بشرط لأنه لو كان شرطا لما صح العقد بدونه في الطريق المخوف ولأنه لم تجر العادة بتقدير السير في طريق‏,‏ ومتى اختلفا رجع إلى العرف في غير تلك الطريق‏.‏

فصل‏:‏

وإن اشترط حمل زاد مقدر كمائة رطل‏,‏ نظرنا فإن شرط أنه يبدل منها ما نقص بالأكل أو غيره فله ذلك وإن شرط أن ما نقص بالأكل لا يبدله‏,‏ لم يكن له إبداله فإن ذهب بغير الأكل كسرقة أو سقوط فله إبداله لأن ذلك لم يدخل في شرطه وإن أطلق العقد‏,‏ فله إبدال ما ذهب بسرقة أو سقوط أو أكل غير معتاد بغير خلاف وإن نقص بالأكل المعتاد فله إبداله أيضا لأنه استحق حمل مقدار معلوم‏,‏ فملك إبدال ما نقص منه كما لو نقص بسرقة ويحتمل أنه لا يملك إبداله لأن العرف جار بأن الزاد ينقص فلا يبدل‏,‏ فحمل العقد عند الإطلاق على العرف وصار كالمصرح به وقال الشافعي‏:‏ القياس أن له إبداله ولو قيل‏:‏ ليس له إبداله كان مذهبا لأن العادة أن الزاد لا يبقى جميع المسافة ولذلك يقل أجره عن أجر المتاع‏.‏

فصل‏:‏

وإذا اكترى جملا ليحج عليه‏,‏ فله الركوب عليه إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج عليه إلى منى لأنه من تمام الحج وقيل‏:‏ ليس له الركوب إلى منى لأنه بعد التحلل من الحج والأولى أن له ذلك لأنه من تمام الحج وتوابعه‏,‏ ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب إلى الحج لأنها زيادة ويحتمل أن له ذلك لأن الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء للحج‏,‏ لكونها لا يكترى إليها إلا للحج غالبا فكان بمنزلة المكتري للحج‏.‏

فصل‏:

فيما يلزم المكري والمكتري للركوب‏:‏ يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب‏,‏ من الحداجة للجمل والقتب والزمام الذي يقاد به البعير‏,‏ والبرة التي في أنف البعير إن كانت العادة جارية بينهم بها وإن كان فرسا فاللجام والسرج وإن كان بغلا أو حمارا فالبرذعة والإكاف لأن هذا هو العرف‏,‏ فحمل الإطلاق عليه وعلى المكتري ما يزيد على ذلك كالمحمل والمحارة‏,‏ والحبل الذي يشد به بين المحملين أو المحارتين لأن ذلك من مصلحة المحمل والوطاء الذي يشد فوق الحداجة تحت المحمل وعلى المكري رفع المحمل وحطه‏,‏ وشده على الجمل ورفع الأحمال وشدها وحطها لأن هذا هو العرف وبه يتمكن من الركوب ويلزمه القائد والسائق‏,‏ هذا إذا كان الكراء على أن يذهب مع المكتري وإن كان على أن يتسلم الراكب البهيمة يركبها لنفسه فكل ذلك عليه لأن الذي على المكري تسليم البهيمة‏,‏ وقد سلمها إليه فأما الدليل فهو على المكتري لأن ذلك خارج عن البهيمة المكتراة وآلتها فلم يلزمه كالزاد وقيل‏:‏ إن كان اكترى منه بهيمة بعينها‏,‏ فأجرة الدليل على المكتري لأنه الذي عليه أن يسلم الظهر وقد سلمه وإن كانت على حمله إلى مكان معين في الذمة‏,‏ فهو على المكري لأنه من مؤنة إيصاله إليه وتحصيله فيه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا كان الراكب ممن لا يقدر على الركوب والبعير قائم كالمرأة والشيخ والضعيف والسمين وشبههم‏,‏ فعلى الجمال أن يبرك الجمل لركوبه ونزوله لأنه لا يتمكن من الركوب والنزول إلا به وإن كان ممن يمكنه الركوب والنزول والبعير قائم لم يلزم الجمال أن يبرك له الجمل لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بدون هذه الكلفة وإن كان قويا حال العقد فضعف في أثنائه‏,‏ أو ضعيفا فقوي فالاعتبار بحال الركوب لأن العقد اقتضى ركوبه بحسب العادة ويلزم الجمال أن يوقف البعير لينزل لصلاة الفريضة وقضاء حاجة الإنسان وطهارته‏,‏ ويدع البعير واقفا حتى يفعل ذلك لأنه لا يمكنه فعل شيء من هذا على ظهر البعير وما أمكنه فعله عليه من الأكل والشرب وصلاة النافلة من السنن وغيرها لم يلزمه أن يبركه له‏,‏ ولا يقف عليه من أجله وإن أراد المكتري إتمام الصلاة وطالبه الجمال بقصرها لم يلزمه ذلك بل تكون خفيفة في تمام‏.‏ ومن اكترى بعيرا لإنسان يركبه لنفسه‏,‏ وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك لأنه وفي له بما عقد عليه فلم يلزمه شيء سواه‏.‏

فصل‏:

وإذا اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول والمشي عند اقتراب المنزل والمكتري امرأة أو ضعيف‏,‏ لم يلزمه النزول لأنه اكتراه جميع الطريق ولم تجر له عادة بالمشي فلزم حمله في جميع الطريق‏,‏ كالمتاع وإن كان جلدا قويا ففيه وجهان‏:‏ أحدهما لا يلزمه النزول أيضا لأنه عقد على جميع الطريق‏,‏ فلا يلزمه تركه في بعضها كالضعيف والثاني يلزمه لأنه متعارف والمتعارف كالمشروط‏.‏

فصل‏:‏

وإن هرب الجمال في بعض الطريق أو قبل الدخول فيها‏,‏ لم يخل من حالين أحدهما أن يهرب بجماله فينظر فإن لم يجد المستأجر حاكما‏,‏ أو وجد حاكما ولم يمكن إثبات الحال عنده أو أمكن الإثبات عنده ولا يحصل له ما يكتري به ما يستوفي حقه منه فللمستأجر فسخ الإجارة لأنه تعذر عليه قبض المعقود عليه‏,‏ فأشبه ما لو أفلس المشتري أو انقطع المسلم فيه عند محله فإن فسخ العقد وكان الجمال قد قبض الأجر‏,‏ كان دينا في ذمته وإن اختار المقام على العقد وكانت الإجارة على عمل في الذمة‏,‏ فله ذلك ومتى قدر على الجمال طالبه به وإن كان العقد على مدة انقضت في هربه‏,‏ انفسخ العقد بذلك وإن أمكنه إثبات الحال عند الحاكم وكان العقد على موصوف غير معين لم ينفسخ العقد‏,‏ ويرفع الأمر إلى الحاكم ويثبت عنده فينظر الحاكم‏,‏ فإن وجد للجمال مالا اكترى به له وإن لم يجد له مالا وأمكنه أن يقترض على الجمال من بيت المال‏,‏ أو من غيره ما يكتري له به فعل فإن دفع الحاكم المال إلى المكتري ليكتري لنفسه به‏,‏ جاز في ظاهر كلام أحمد وإن اقترض عليه من المكتري ما يكري به جاز وصار دينا في ذمة الجمال وإن كان العقد على معين‏,‏ لم يجز إبداله ولا اكتراء غيره لأن العقد تعلق بعينه فيتخير المكتري بين الفسخ أو البقاء إلى أن يقدر عليه‏,‏ فيطالبه بالعمل الحال الثاني إذا هرب الجمال وترك جماله فإن المكتري يرفع الأمر إلى الحاكم‏,‏ فإن وجد للجمال مالا استأجر به من يقوم مقام الجمال في الإنفاق على الجمال والشد عليها‏,‏ وحفظها وفعل ما يلزم الجمال فعله فإن لم يجد له غير الجمال وكان فيها فضلة عن الكراء‏,‏ باع بقدر ذلك وإن لم يكن فيها فضل أو لم يمكن بيعه‏,‏ اقترض عليه الحاكم كما قلنا وإن ادان من المكتري وأنفق جاز وإن أذن للمكتري في الإنفاق من ماله بالمعروف‏,‏ ليكون دينا على الجمال جاز لأنه في موضع حاجة وإذا رجع الجمال واختلفا فيما أنفق‏,‏ نظرنا فإن كان الحاكم قدر له ما ينفق قبل قوله في قدر ذلك وما زاد لا يحتسب له‏,‏ وإن لم يقدر له قبل قوله في قدر النفقة بالمعروف لأنه أمين وما زاد لا يرجع به لأنه متطوع به وإذا وصل المكتري‏,‏ رفع الأمر إلى الحاكم ففعل ما يرى الحظ فيه من بيع الجمال‏,‏ فيوفي عن الجمال ما لزمه من الدين للمكتري أو لغيره ويحفظ باقي الثمن له وإن رأى بيع بعضها وحفظ باقيها‏,‏ والإنفاق على الباقي من ثمن ما باع جاز وإن لم يجد حاكما أو عجز عن استدانة‏,‏ فله أن ينفق عليها ويقيم مقام الجمال فيما يلزمه فإن فعل ذلك متبرعا‏,‏ لم يرجع بشيء وإن نوى الرجوع وأشهد على ذلك رجع به لأنه حال ضرورة وهذا أحد الوجهين للشافعي وإن لم يشهد‏,‏ ونوى الرجوع ففي الرجوع وجهان أحدهما يرجع به لأن ترك الجمال مع العلم بأنها لا بد لها من نفقة إذن في الإنفاق والثاني لا يرجع به لأنه يثبت لنفسه حقا على غيره وكذلك إن لم يجد من يشهده فأنفق محتسبا بالرجوع وقياس المذهب أن له الرجوع لقولنا‏:‏ يرجع بما أنفق على الآبق‏,‏ وعلى عيال الغائب وزوجاته والدابة المرهونة ولو قدر على استئذان الحاكم فأنفق من غير استئذانه‏,‏ وأشهد على ذلك ففي رجوعه وجهان أيضا وحكم موت الجمال حكم هربه وقال أبو بكر‏:‏ مذهب أحمد‏,‏ أن الموت لا يفسخ الإجارة وله أن يركبها ولا يسرف في علفها‏,‏ ولا يقصر ويرجع بذلك في مال المتوفى فإن لم يكن في يد المستأجر ما ينفقه‏,‏ لم يجز أن يبيع منها شيئا لأن البيع إنما يجوز من المالك أو من نائبه أو ممن له ولاية عليه‏.‏

فصل‏:‏

قال أصحابنا‏:‏ يصح كراء العقبة وهو مذهب الشافعي‏,‏ ومعناها‏:‏ الركوب في بعض الطريق يركب شيئا ويمشي شيئا لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع جاز اكتراؤها في البعض ولا بد من كونها معلومة‏,‏ إما أن يقدرها بفراسخ معلومة وإما بالزمان مثل أن يركب ليلا ويمشي نهارا‏,‏ ويعتبر في هذا زمان السير دون زمان النزول وإن اتفقا على أن يركب يوما ويمشي يوما جاز فإن اكترى عقبة وأطلق‏,‏ احتمل أن يجوز ويحمل على العرف ويحتمل أن لا يصح لأن ذلك يختلف وليس له ضابط‏,‏ فيكون مجهولا وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام ويمشي ثلاثة أيام أو ما زاد ونقص‏,‏ جاز وإن اختلفا لم يجبر الممتنع منهما لأن فيه ضررا على كل واحد منهما الماشي لدوام المشي عليه وعلى الجمل لدوام الركوب عليه‏,‏ ولأنه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على البعير‏.‏ وإن اكترى اثنان جملا يركبانه عقبة وعقبة جاز ويكون كراؤهما طول الطريق‏,‏ والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه وإن تشاحا قسم بينهما لكل واحد منهما فراسخ معلومة أو لأحدهما الليل وللآخر النهار وإن كان لذلك عرف‏,‏ رجع إليه وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما ويحتمل أن لا يصح كراؤهما إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد منهما‏,‏ فلم يصح كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبدا معينا منهما‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فإن رأى الراكبين أو وصفا له‏,‏ وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز ‏]‏

وجملته أن المعرفة بالوصف تقوم مقام الرؤية في الراكبين إذا وصفهما بما يختلفان به‏,‏ في الطول والقصر والهزال والسمن والصحة والمرض‏,‏ والصغر والكبر والذكورية والأنوثية والباقي يكفي فيه ذكر الوزن وقال الشريف أبو جعفر‏,‏ وأبو الخطاب‏:‏ لا بد من معرفة الراكبين بالرؤية لأنه يختلف بثقله وخفته وسكونه وحركته ولا ينضبط بالوصف‏,‏ فيجب تعيينه وهذا مذهب الشافعي ولهم في المحمل وجه أنه لا تكفي فيه الصفة ويجب تعيينه ولنا أنه عقد معاوضة مضاف إلى حيوان‏,‏ فاكتفي فيه بالصفة كالبيع وكالمركوب في الإجارة‏,‏ ولأنه لو لم يكتف فيه بالصفة لما جاز للراكب أن يقيم غيره مقامه لأنه إنما يعلم كونه مثله لتساويهما في الصفات فما لا تأتي عليه الصفات لا يعلم التساوي فيه‏,‏ ولأن الوصف يكتفى به في البيع فاكتفي به في الإجارة كالرؤية‏,‏ والتفاوت بعد ذكر الصفات الظاهرة يسير تجري المسامحة فيه كالمسلم فيه‏.‏

فصل‏:

ويجوز اكتراء الإبل والدواب للحمولة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس‏}‏ والحمولة بالضم‏:‏ الأحمال والحمولة بالفتح‏:‏ التي يحمل عليها قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأنعام حمولة وفرشا‏}‏ الحمولة‏:‏ الكبار والفرش‏:‏ الصغار وقيل الحمولة‏:‏ الإبل والفرش‏:‏ الغنم لأنها لا تحمل‏,‏ ولا يحتاج إلى معرفة الحمولة لأن الغرض حمل المتاع دون ما يحمله بخلاف الركوب‏,‏ فإن للراكب غرضا في المركوب من سهولته وحاله وسرعته وإن اتفق وجود غرض في الحمولة مثل أن يكون المحمول شيئا يضره كثرة الحركة‏,‏ كالفاكهة والزجاج أو كون الطريق مما يعسر على بعضها دون بعض فينبغي أن يذكر في الإجارة وأما الأحمال‏,‏ فلا بد من معرفتها فإن لم يعرفها لم يجز لأن ذلك يتفاوت كثيرا‏,‏ ويختلف الغرض به فإن شرط أن تحمل ما شاء بطل لأن ذلك لا يمكن الوفاء به ويدخل فيه ما يقتل البهيمة وإن قال‏:‏ احتمل عليها طاقتها لم يجز أيضا لأن ذلك لا ضابط له وتحصل المعرفة بطريقين‏:‏ المشاهدة لأنها من أعلى طرق العلم‏,‏ والصفة ويشترط في الصفة معرفة شيئين‏:‏ القدر والجنس لأن الجنس يختلف تعب البهيمة باختلافه مع التساوي في القدر فإن القطن يضر بها من وجه‏,‏ وهو أنه ينتفخ على البهيمة فيدخل فيه الريح فيثقل ومثله من الحديد يؤذي من جهة أخرى وهو أنه يجتمع على موضع من البهيمة‏,‏ فربما عقرها فلا بد من بيانه وأما الظروف فإن دخلت في الوزن‏,‏ لم يحتج إلى ذكرها وإن لم توزن فإن كانت ظروفا معروفة‏,‏ لا تختلف كغرائر الصوف والشعر ونحوها جاز العقد عليها من غير تعيين لأنها قلما تتفاوت تفاوتا كثيرا فتسميتها تكفي‏,‏ وإن كانت تختلف فلا بد من معرفتها بالتعيين أو الصفة وذكر ابن عقيل أنه إذا قال‏:‏ أكريتكها لتحمل عليها ثلاثمائة رطل مما شئت جاز‏,‏ وملك ذلك لكن لا يحمله حملا يضر بالحيوان مثل ما لو أراد حمل حديد أو زئبق‏,‏ ينبغي أن يفرقه على ظهر الحيوان فلا يجتمع في موضع واحد من ظهره ولا يجعله في وعاء يتموج فيه‏,‏ فيكد البهيمة ويتعبها وإن اكترى ظهرا للحمل موصوفا بجنس فأراد حمله على غير ذلك الجنس وكان الطالب لذلك المستأجر‏,‏ لم يقبل منه لأنه لا يملك المطالبة بما لم يعقد عليه وإن طلبه المؤجر وكان يفوت به غرض للمستأجر‏,‏ مثل أن يكون غرضه الاستعجال في السير أو أن لا ينقطع عن القافلة فيتعين الخيل أو البغال‏,‏ أو يكون غرضه سكون الحمولة لكون الحمولة مما يضرها الهز أو قوتها وصبرها لطول الطريق وثقل الحمولة فيعين الإبل لم يجز العدول عنه لأنه يفوت غرض المستأجر‏,‏ فلم يجز ذلك كما في المركوب وإن لم يفوت غرضا جاز‏,‏ كما يجوز لمن اكترى على حمل شيء حمل مثله أو أقل ضررا منه‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز كراء الدابة للعمل لأنها منفعة مباحة خلقت الدابة لها‏,‏ فجاز الكراء لها كالركوب‏.‏ وإن اكترى بقرا للحرث جاز لأن البقر خلقت للحرث‏,‏ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت‏:‏ إني لم أخلق لهذا‏,‏ إنما خلقت للحرث‏)‏ متفق عليه ويحتاج إلى شرطين‏:‏ معرفة الأرض وتقدير العمل فأما الأرض فلا تعرف إلا بالمشاهدة لأنها تختلف‏,‏ فتكون صلبة تتعب البقر والحراث وقد يكون فيها حجارة تتعلق بالسكة وتكون رخوة سهلة يسهل حرثها‏,‏ ولا تأتي الصفة عليها فيحتاج إلى رؤيتها وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين إما بالمدة‏,‏ كيوم ويومين وإما الأرض كهذه القطعة‏,‏ أو من هذا المكان إلى هذا المكان أو بالمساحة كمدي أو مديين‏,‏ ونحو ذلك كل ذلك جائز لأن العلم يحصل به فإن قدره بالمدة فلا بد من معرفة البقر التي يعمل عليها لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف ويجوز أن يستأجر البقر مفردة ليتولى رب الأرض الحرث بها ويجوز أن يستأجرها مع صاحبها ليتولى الحرث بها ويجوز استئجارها بآلتها من الفدان والنير‏,‏ واستئجارها بدون آلتها وتكون الآلة من عند صاحب الأرض‏.‏ ويجوز استئجار البقر وغيرها لدراس الزرع لأنها منفعة مباحة مقصودة فأشبهت الحرث ويجوز على مدة أو زرع معين‏,‏ أو موصوف كما ذكرناه في الحرث ومتى كان على مدة احتيج إلى معرفة الحيوان الذي يعمل عليه ليعرف قوته أو ضعفه‏,‏ وإن كان على عمل غير مقدر بالمدة احتاج إلى معرفة جنس الحيوان لأن الغرض يختلف به فمنه ما روثه طاهر ومنه ما روثه نجس‏,‏ ولا يحتاج إلى معرفة عين الحيوان ويجوز أن يستأجر الحيوان بآلته وبغير آلته مع صاحبه‏,‏ ومنفردا عنه كما ذكرنا في الحرث‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز استئجار بهيمة لإدارة الرحى ويفتقر إلى شيئين معرفة الحجر إما بمشاهدة‏,‏ وإما بصفة تحصل بها معرفته لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته فيحتاج صاحبها إلى معرفته وتقدير العمل إما بالزمان‏,‏ فيقول‏:‏ يوما أو يومين أو بالطعام فيقول‏:‏ قفيزا أو قفيزين ويذكر جنس المطحون إن كان يختلف لأن منه ما يسهل طحنه ومنه ما يصعب وكذلك إن اكتراها لإدارة دولاب فلا بد من مشاهدته‏,‏ ومشاهدة دولابه لاختلافها وتقدير ذلك بالزمان‏,‏ أو ملء هذا الحوض أو هذه البركة وكذلك إن اكتراها للاستقاء بالغرب فلا بد من معرفته لأنه يختلف بكبره وصغره‏,‏ ويقدر بالزمان أو بعدد الغروب أو بملء بركة أو حوض ولا يجوز تقدير ذلك بسقي أرض لأن ذلك يختلف‏,‏ فقد تكون الأرض عطشانة لا يرويها القليل وتكون قريبة العهد بالماء فيكفيها القليل فيكون ذلك مجهولا وإن قدره بسقي ماشية‏,‏ احتمل أن لا يجوز لذلك ويحتمل أن يجوز لأن شربها يتقارب في الغالب‏.‏ ويجوز استئجار دابة ليستقي عليها ماء ولا بد من معرفة الآلة التي يستقي بها من راوية‏,‏ أو قرب أو جرار ومعرفة ذلك إما بالرؤية وإما بالصفة‏,‏ ويقدر العمل إما بالزمان وإما بعدد المرات وإما بملء شيء معين‏,‏ فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذي يستقي منه والذي يذهب إليه لأن ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونة‏,‏ وإن قدره بملء شيء معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقي منه ويجوز أن يكتري البهيمة بآلتها وبدونها‏,‏ مع صاحبه ووحدها وإن اكتراها لبل تراب معروف جاز لأن ذلك معلوم بالعرف وكل موضع وقع العقد على مدة فلا بد من معرفة الظهر الذي يعمل عليه لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف وإن وقع على عمل معين لم يحتج إلى معرفتها لأنه لا يختلف ويحتمل أن يحتاج إلى ذلك في استيفاء الماء عليه لأن منه ما روثه طاهر وجسمه طاهر بغير خلاف‏,‏ كالخيل والبقر ومنه ما روثه نجس ويختلف في نجاسة جسمه كالبغال والحمير فربما نجس به المستقي أو دلوه‏,‏ فيتنجس الماء به فيختلف الغرض بذلك فتجب معرفته‏.‏

فصل‏:

وإذا اكترى حيوانا لعمل لم يخلق له‏,‏ مثل أن اكترى البقر للركوب أو الحمل عليها أو اكترى الإبل والحمر للحرث جاز لأنها منفعة مقصودة‏,‏ أمكن استيفاؤها من الحيوان لم يرد الشرع بتحريمها فجاز‏,‏ كالذي خلقت له ولأن مقتضى الملك جواز التصرف بكل ما تصلح له العين المملوكة ويمكن تحصيله منها‏,‏ ولا يمتنع ذلك إلا بمعارض راجح إما ورود نص بتحريمه أو قياس صحيح‏,‏ أو رجحان مضرته على منفعته وليس ها هنا واحد منها وكثير من الناس من الأكراد وغيرهم يحملون على البقر ويركبونها وفي بعض البلدان يحرثون على الإبل والبغال والحمير‏,‏ فيكون معنى خلقها للحرث إن شاء الله أن معظم الانتفاع بها فيه ولا يمنع ذلك الانتفاع بها في شيء آخر‏,‏ كما أن الخيل خلقت للركوب والزينة ويباح أكلها واللؤلؤ خلق للحلية‏,‏ ويجوز استعماله في الأدوية وغيرها والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

وقال‏:‏ ‏[‏ وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن ‏]‏

وجملته أن الأجير على ضربين خاص ومشترك‏,‏ فالخاص‏:‏ هو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها كرجل استؤجر لخدمة‏,‏ أو عمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا‏,‏ سمي خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس والمشترك‏:‏ الذي يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب وبناء حائط‏,‏ وحمل شيء إلى مكان معين أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال‏,‏ والطبيب سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين وثلاثة وأكثر في وقت واحد ويعمل لهم فيشتركون في منفعته واستحقاقها‏,‏ فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته فالأجير المشترك هو الصانع الذي ذكره الخرقي وهو ضامن لما جنت يده فالحائك إذا أفسد حياكته ضامن لما أفسد نص أحمد على هذه المسألة‏,‏ في رواية ابن منصور والقصار ضامن لما يتخرق من دقه أو مده أو عصره أو بسطه والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه والخباز ضامن لما أفسد من خبزه والحمال يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه أو تلف من عثرته والجمال يضمن ما تلف بقوده‏,‏ وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به حمله والملاح يضمن ما تلف من يده أو جذفه‏,‏ أو ما يعالج به السفينة وروي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن عتبة‏,‏ وشريح والحسن والحكم وهو قول أبي حنيفة‏,‏ ومالك وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر‏:‏ لا يضمن‏,‏ ما لم يتعد قال الربيع‏:‏ هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به وروي ذلك عن عطاء وطاوس‏,‏ وزفر لأنها عين مقبوضة بعقد الإجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة ولنا ما روى جعفر بن محمد‏,‏ عن أبيه عن علي أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال‏:‏ لا يصلح الناس إلا ذلك وروى الشافعي في ‏"‏ مسنده ‏"‏‏,‏ بإسناده عن علي أنه كان يضمن الأجراء ويقول‏:‏ لا يصلح الناس إلا هذا ولأن عمل الأجير المشترك مضمون عليه‏,‏ فما تولد منه يجب أن يكون مضمونا كالعدوان بقطع عضو بخلاف الأجير الخاص والدليل على أن عمله مضمون عليه‏,‏ أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجر فيما عمل فيه‏,‏ وكان ذهاب عمله من ضمانه بخلاف الخاص فإنه إذا أمكن المستأجر من استعماله‏,‏ استحق العوض بمضي المدة وإن لم يعمل وما عمل فيه من شيء فتلف من حرزه لم يسقط أجره بتلفه‏.‏

فصل‏:‏

ذكر القاضي أن الأجير المشترك إنما يضمن إذا كان يعمل في ملك نفسه‏,‏ مثل الخباز يخبز في تنوره وملكه والقصار والخياط في دكانيهما قال‏:‏ ولو دعا الرجل خبازا‏,‏ فخبز له في داره أو خياطا أو قصارا ليقصر ويخيط عنده لا ضمان عليه فيما أتلف‏,‏ ما لم يفرط لأنه سلم نفسه إلى المستأجر فيصير كالأجير الخاص قال‏:‏ ولو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة أو راكبا على الدابة فوق حمله‏,‏ فعطب الحمل لا ضمان على الملاح والمكاري لأن يد صاحب المتاع لم تزل ولو كان رب المتاع والجمال راكبين على الحمل فتلف حمله‏,‏ لم يضمنه الجمال لأن رب المتاع لم يسلمه إليه ومذهب مالك والشافعي نحو هذا قال أصحاب الشافعي‏:‏ لو كان العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليعمل له شيئا‏,‏ وهو معه لم يضمن لأن يده عليه فلم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله لأن يده عليه‏,‏ فكلما عمل شيئا صار مسلما إليه فظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه‏,‏ أو كونه مع الملاح أو الجمال أو لا وكذلك قال ابن عقيل‏:‏ ما تلف بجناية الملاح بجذفه أو بجناية المكاري بشده المتاع ونحوه‏,‏ فهو مضمون عليه سواء كان صاحب المتاع معه أو لم يكن لأن وجوب الضمان عليه لجناية يده‏,‏ فلا فرق بين حضور المالك وغيبته كالعدوان ولأن جناية الجمال والملاح‏,‏ إذا كان صاحب المتاع راكبا معه يعم المتاع وصاحبه وتفريطه يعمهما‏,‏ فلم يسقط ذلك الضمان كما لو رمى إنسانا متترسا فكسر ترسه وقتله‏,‏ ولأن الطبيب والختان إذا جنت يداهما ضمنا مع حضور المطبب والمختون وقد ذكر القاضي أنه لو كان جمال يحمل على رأسه ورب المتاع معه فعثر فسقط المتاع‏,‏ فتلف ضمن وإن سرق‏,‏ لم يضمن لأنه في العثار تلف بجنايته والسرقة ليست من جنايته ورب المال لم يحل بينه وبينه وهذا يقتضي أن تلفه بجنايته مضمون عليه سواء حضر رب المال أو غاب‏,‏ بل وجوب الضمان في محل النزاع أولى لأن الفعل في ذلك إلى الموضع مقصود لفاعله والسقطة من الحمال غير مقصودة له فإذا وجب الضمان ها هنا‏,‏ فثم أولى‏.‏

فصل‏:

وذكر القاضي أنه إذا كان المستأجر على حمله عبيدا صغارا أو كبارا فلا ضمان على المكاري فيما تلف من سوقه وقوده إذ لا يضمن بني آدم من جهة الإجارة لأنه عقد على منفعة والأولى وجوب الضمان لأن الضمان ها هنا من جهة الجناية‏,‏ فوجب أن يعم بني آدم وغيرهم كسائر الجنايات وما ذكره ينتقض بجناية الطبيب والختان‏.‏

فصل‏:‏

فأما الأجير الخاص فهو الذي يستأجر مدة فلا ضمان عليه‏,‏ ما لم يتعد قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه يكيل لرجل بزرا‏,‏ فسقط الرطل من يده فانكسر‏:‏ لا ضمان عليه فقيل‏:‏ أليس هو بمنزلة القصار‏؟‏ قال‏:‏ لا القصار مشترك قيل‏:‏ فرجل اكترى رجلا يستقي ماء‏,‏ فكسر الجرة‏؟‏ فقال‏:‏ لا ضمان عليه قيل له‏:‏ فإن اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذي يحرث به قال‏:‏ فلا ضمان عليه وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه وظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر‏:‏ أن جميع الأجراء يضمنون وروى في مسنده‏,‏ عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمن الأجراء ويقول‏:‏ لا يصلح الناس إلا هذا ولنا أن عمله غير مضمون عليه فلم يضمن ما تلف به‏,‏ كالقصاص وقطع يد السارق وخبر علي مرسل والصحيح فيه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وإن روي مطلقا‏,‏ حمل على هذا فإن المطلق يحمل على المقيد ولأن الأجير الخاص نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمره به فلم يضمن من غير تعد كالوكيل والمضارب فأما ما يتلف بتعديه‏,‏ فيجب ضمانه مثل الخباز الذي يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته‏,‏ أو يتركه بعد وقته حتى يحترق لأنه تلف بتعديه فضمنه كغير الأجير‏.‏

فصل‏:

وإذا استأجر الأجير المشترك أجيرا خاصا‏,‏ كالخياط في دكان يستأجر أجيرا مدة يستعمله فيها فتقبل صاحب الدكان خياطة ثوب‏,‏ ودفعه إلى أجيره فخرقه أو أفسده لم يضمنه لأنه أجير خاص‏,‏ ويضمنه صاحب الدكان لأنه أجير مشترك‏.‏

فصل‏:‏

إذا أتلف الصانع الثوب بعد عمله فصاحبه مخير بين تضمينه إياه غير معمول ولا أجر له وبين تضمينه إياه معمولا ويدفع إليه أجره ولو وجب عليه ضمان المتاع المحمول‏,‏ فصاحبه مخير بين تضمينه قيمته في الموضع الذي سلمه إليه ولا أجر له وبين تضمينه إياه في الموضع الذي أفسده ويعطيه الأجر إلى ذلك المكان وإنما كان كذلك لأنه إذا أحب تضمينه معمولا أو في المكان الذي أفسده فيه‏,‏ فله ذلك لأنه ملكه في ذلك الموضع على تلك الصفة فملك المطالبة بعوضه حينئذ وإن أحب تضمينه قبل ذلك‏,‏ فلأن أجر العمل لا يلزمه قبل تسليمه إليه وما سلم إليه فلا يلزمه‏.‏

فصل‏:‏

إذا دفع إلى حائك غزلا‏,‏ فقال‏:‏ انسجه لي عشرة أذرع في عرض ذراع فنسجه زائدا على ما قدر له في الطول والعرض فلا أجر له في الزيادة لأنه غير مأمور بها وعليه ضمان نقص الغزل المنسوج فيها‏,‏ فأما ما عدا الزائد فينظر فيه فإن كان جاء به زائدا في الطول وحده ولم ينقص الأصل بالزيادة فله ما سمى له من الأجر كما لو استأجره على أن يضرب له مائة لبنة‏,‏ فضرب له مائتين إن جاء به زائدا في العرض وحده أو فيهما‏,‏ ففيه وجهان أحدهما‏:‏ لا أجر له لأنه مخالف لأمر المستأجر فلم يستحق شيئا كما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع‏,‏ فبناه عرض ذراعين والثاني له المسمى لأنه زاد على ما أمر به فأشبه زيادة الطول ومن قال بالوجه الأول فرق بين الطول والعرض‏,‏ بأنه يمكن قطع الزائد في الطول ويبقى الثوب على ما أراد ولا يمكن ذلك في العرض وأما إن جاء به ناقصا في الطول والعرض‏,‏ أو في أحدهما ففيه أيضا وجهان أحدهما لا أجر له‏,‏ وعليه ضمان نقص الغزل لأنه مخالف لما أمر به فأشبه ما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض نصف ذراع والثاني له بحصته من المسمى‏,‏ كمن استؤجر على ضرب لبن فضرب بعضه ويحتمل أنه إن جاء به ناقصا في العرض فلا شيء له وإن كان ناقصا في الطول‏,‏ فله بحصته من المسمى لما ذكرنا من الفرق بين الطول والعرض وإن جاء به زائدا في أحدهما ناقصا في الآخر فلا أجر له في الزائد‏,‏ وهو في الناقص على ما ذكرنا من التفصيل فيه وقال محمد بن الحسن في الموضعين‏:‏ يخير صاحب الثوب بين دفع الثوب إلى النساج ومطالبته بثمن غزله وبين أن يأخذه ويدفع إليه المسمى في الزائد أو بحصة المنسوج في الناقص لأن غرضه لم يسلم له‏,‏ لأنه ينتفع بالطويل ما لا ينتفع بالقصير وينتفع بالقصير ما لا ينتفع بالطويل فكأنه أتلف عليه غزله ولنا أنه وجد عين ماله‏,‏ فلم يكن له المطالبة بعوضه كما لو جاء به زائدا في الطول وحده فأما إن أثرت الزيادة أو النقص في الأصل مثل أن يأمره بنسج عشرة أذرع ليكون الثوب خفيفا‏,‏ فنسجه خمسة عشر فصار صفيقا أو أمره بنسجه خمسة عشر ليكون صفيقا‏,‏ فنسجه عشرة فصار خفيفا فلا أجر له بحال‏,‏ وعليه ضمان نقص الغزل لأنه لم يأت بشيء مما أمر به‏.‏

فصل‏:‏

إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال‏:‏ إن كان يقطع قميصا فاقطعه فقال‏:‏ هو يقطع وقطعه فلم يكف‏,‏ فعليه ضمانه وإن قال‏:‏ انظر هذا يكفيني قميصا‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن وبهذا قال الشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وقال أبو ثور‏:‏ لا ضمان عليه في المسألتين لأنه لو كان غره في الأولى لكان قد غره في الثانية ولنا أنه إنما أذن له في الأولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه‏,‏ وفي الثانية أذن له من غير شرط فافترقا ولم يجب عليه الضمان في الأولى لتغريره‏,‏ بل لعدم الإذن في قطعه لأن إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذنا في غير ما وجد فيه الشرط بخلاف الثانية‏.‏

فصل‏:‏

فإن أمره أن يقطع الثوب قميص رجل ، فقطعه قميص امرأة ، فعليه غرم ما بين قيمته صحيحا ومقطوعا ؛ لأن هذا قطع غير مأذون فيه ، فأشبه ما لو قطعه من غير إذن . وقيل : يغرم ما بين قميص امرأة وقميص رجل ؛ لأنه مأذون في قميص في الجملة . والأول أصح ؛ لأن المأذون فيه قميص موصوف بصفة ، فإذا قطع قميصا غيره ، لم يكن فاعلا لما أذن فيه ، فكان متعديا بابتداء القطع ، ولذلك لا يستحق على القطع أجرا ، ولو فعل ما أمر به ، لاستحق أجره .

فصل‏:‏

وإن اختلفا ، فقال : أذنت لي في قطعه قميص امرأة . وقال : بل أذنت لك في قطعه قميص رجل . أو قال : أذنت لي في قطعه قميصا . قال : بل قباء . أو قال الصباغ : أمرتني بصبغه أحمر . قال : بل أسود . فالقول قول الخياط والصباغ . نص عليه أحمد ، في رواية ابن منصور . وهذا قول ابن أبي ليلى . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور : القول قول رب الثوب . واختلف أصحاب الشافعي ، فمنهم من قال : له قولان ، كالمذهبين ومنهم من قال : له قول ثالث أنهما يتحالفان ، كالمتبايعين يختلفان في الثمن . ومنهم من قال : الصحيح أن القول قول رب الثوب ؛ لأنهما اختلفا في صفة إذنه ، والقول قوله في أصل الإذن ، فكذلك في صفته ، ولأن الأصل عدم الإذن المختلف فيه ، فالقول قول من ينفيه . ولنا أنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته ، فكان القول قول المأذون له ، كالمضارب إذا قال : أذنت لي في البيع نساء . ولأنهما اتفقا على ملك الخياط القطع ، والصباغ الصبغ والظاهر أنه فعل ما ملكه ، واختلفا في لزوم الغرم له ، والأصل عدمه . فعلى هذا يحلف الخياط والصباغ بالله لقد أذنت لي في قطعه قباء ، وصبغه أحمر . ويسقط عنه الغرم ، ويكون له أجر مثله ؛ لأنه ثبت وجود فعله المأذون فيه بعوض ، ولا يستحق المسمى ؛ لأن المسمى ثبت بقوله ودعواه ، فلا يحنث بيمينه ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه) . أخرجه مسلم فأما المسمى في العقد ، فإنما يعترف رب الثوب بتسميته أجرا ، وقطعه قميصا ، وصبغه أسود . فأما من قال : القول قول رب الثوب . فإنه يحلف بالله : ما أذنت في قطعه قباء ، ولا صبغه أحمر . ويسقط عنه المسمى . ولا يجب للخياط والصباغ شيء ؛ لأنهما فعلا غير ما أذن لهما فيه . وذكر ابن أبي موسى ، عن أحمد ، رواية أخرى ، أن صاحب الثوب إذا لم يكن ممن يلبس الأقبية والسواد ، فالقول قوله وعلى الصانع غرم ما نقص بالقطع ، وضمان ما أفسد ، ولا أجر له ؛ لأن قرينة حال رب الثوب تدل على صدقه ، فتترجح دعواه بهما ، كما لو اختلفا في حائط لأحدهما عليه عقد أو أزج ، رجحنا دعواه بذلك . وإن اختلف الزوجان في متاع البيت ، رجحنا دعوى كل واحد منهما فيما يصلح له . ولو اختلف صانعان في الآلة التي في دكانهما ، رجحنا قول كل واحد منهما في آلة صناعته . فعلى هذا يحلف رب الثوب : ما أذنت لك في قطعه قباء ويكفي هذا لأنه ينتفي به الإذن ، فيصير قاطعا لغير ما أذن فيه . فإن كان القباء مخيطا بخيوط لمالكه ، لم يملك الخياط فتقه ، وكان لمالكه أخذه مخيطا بلا عوض ؛ لأنه عمل في ملك غيره عملا مجردا عن عين مملوكة له ، فلم يكن له إزالته ، كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى موضع ، لم يكن له رده إذا رضي صاحبه بتركه فيه . وإن كانت الخيوط للخياط ، فله نزعها ؛ لأنها عين ماله ، ولا يلزمه أخذ قيمتها ؛ لأنها ملكه ، ولا يتلف بأخذها ما له حرمة . فإن اتفقا على تعويضه عنها جاز ؛ لأن الحق لهما . وإن قال رب الثوب : أنا أشد في كل خيط خيطا . حتى إذا سله عاد خيط رب الثوب في مكانه ، لم يلزم الخياط الإجابة إلى ذلك ؛ لأنه انتفاع بملكه . وحكم الصباغ في قلع الصبغ إن أحبه ، وفي غير ذلك من أحكامه حكم صبغ الغاصب على ما مضى في بابه . والذي يقوى عندي ، أن القول قول رب الثوب ؛ لما ذكرنا في دليلهم .

فصل‏:

وكل من استؤجر على عمل في عين‏,‏ فلا يخلو إما أن يوقعه وهي في يد الأجير كالصباغ يصبغ في حانوته والخياط في دكانه‏,‏ فلا يبرأ من العمل حتى يسلمها إلى المستأجر ولا يستحق الأجر حتى يسلمه مفروغا منه لأن المعقود عليه في مدة فلا يبرأ منه ما لم يسلمه إلى العاقد‏,‏ كالمبيع من الطعام لا يبرأ منه قبل تسليمه إلى المشتري وأما إن كان يوقع العمل في ملك المستأجر مثل أن يحضره المستأجر إلى داره ليخيط فيها‏,‏ أو يصبغ فيها فإنه يبرأ من العمل ويستحق أجره بمجرد عمله لأنه في يد المستأجر‏,‏ فيصير مسلما للعمل حالا فحالا ولو استأجر رجلا يبني له حائطا في داره أو يحفر فيها بئرا لبرئ من العمل‏,‏ واستحق أجره بمجرد عمله ولو كانت البئر في الصحراء أو الحائط لم يبرأ بمجرد العمل ولو انهارت عقيب الحفر‏,‏ أو الحائط بعد بنائه وقبل تسليمه لم يبرأ من العمل نص عليه أحمد في رواية ابن منصور فإنه إذا قال‏:‏ استعمل ألف لبنة في كذا وكذا فعمل‏,‏ ثم سقط فله الكراء وأما الأجير الخاص فيستحق أجره بمضي المدة سواء تلف ما عمله أو لم يتلف نص عليه أحمد‏,‏ فقال‏:‏ إذا استأجره يوما فعمل وسقط عند الليل ما عمل‏,‏ فله الكراء وذلك لأنه إنما يلزمه تسليم نفسه وعمل ما يستعمل فيه وقد وجد ذلك منه‏,‏ بخلاف الأجير المشترك ولو استأجر أجيرا ليبني له حائطا طوله عشرة أذرع فبنى بعضه فسقط‏,‏ لم يستحق شيئا حتى يتممه سواء كان في ملك المستأجر أو في غيره لأن الاستحقاق مشروط بإتمامه ولم يوجد قال أحمد‏:‏ إذا قيل له‏:‏ ارفع حائطا كذا وكذا ذراعا فعليه أن يوفيه‏,‏ فإن سقط فعليه التمام وكذا لو استأجره ليحفر له بئرا عمقها عشرة أذرع فحفر منها خمسة‏,‏ وانهار فيها تراب من جوانبها لم يستحق شيئا حتى يتمم حفرها‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ وإن تلفت من حرز فلا ضمان عليه‏,‏ ولا أجر له فيما عمل فيها ‏]‏

اختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين من حرزه من غير تعد منه ولا تفريط‏,‏ فروي عنه‏:‏ لا يضمن نص عليه في رواية ابن منصور وهو قول طاوس وعطاء‏,‏ وأبي حنيفة وزفر وقول الشافعي وروي عن أحمد‏,‏ إن كان هلاكه بما استطاع ضمنه وإن كان غرقا أو عدوا غالبا‏,‏ فلا ضمان قال أحمد في رواية أبي طالب‏:‏ إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه‏,‏ ضمنه وإن كان عدوا أو غرقا فلا ضمان ونحو هذا قال أبو يوسف والصحيح في المذهب الأول وهذه الرواية تحتمل أنه إنما أوجب عليه الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة لأنه يتهم ولهذا قال في الوديعة‏,‏ في رواية‏:‏ إنها تضمن إذا ذهبت من بين ماله فأما غير ذلك فلا ضمان عليه لأن تخصيصه التضمين بما إذا تلف من بين متاعه يدل على أنه لا يضمن إذا تلف مع متاعه‏,‏ ولأنه إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان فلا يجب عليه الضمان كما لو تلفت بأمر غالب وقال مالك‏,‏ وابن أبي ليلى‏:‏ يضمن بكل حال لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏على اليد ما أخذت حتى تؤديه‏)‏ ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فلزمه ضمانها كالمستعير ولنا أنها عين مقبوضة بعقد الإجارة‏,‏ لم يتلفها بفعله فلم يضمنها كالعين المستأجرة‏,‏ ولأنه قبضها بإذن مالكها لنفع يعود إليهما فلم يضمنها كالمضارب والشريك والمستأجر‏,‏ وكما لو تلفت بأمر غالب ويخالف العارية فإنه ينفرد بنفعها والخبر مخصوص بما ذكرنا من الأصول فيخص محل النزاع بالقياس عليها إذا ثبت هذا‏,‏ فإنه لا أجر له فيما عمل فيها لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر فلم يستحق عوضه كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله‏,‏ على استيفاء الأجر فتلف ضمنه لأنه لم يرهنه عنده‏,‏ ولا أذن له في إمساكه فلزمه الضمان كالغاصب‏.‏

فصل‏:‏

إذا أخطأ القصار ، فدفع الثوب إلى غير مالكه ، فعليه ضمانه ؛ لأنه فوته على مالكه . قال أحمد : يغرم القصار ، ولا يسع المدفوع إليه لبسه إذا علم أنه ليس ثوبه ، وعليه رده إلى القصار ، ويطالبه بثوبه . فإن لم يعلم القابض حتى قطعه ولبسه ، ثم علم ، رده مقطوعا ، وضمن أرش القطع ، وله مطالبته بثوبه إن كان موجودا . وإن هلك عند القصار ، فهل يضمنه ؟ فيه روايتان ؛ إحداهما ، يضمنه ؛ لأنه أمسكه بغير إذن صاحبه بعد طلبه ، فضمنه ، كما لو علم . والثانية لا يضمنه ؛ لأنه لم يمكنه رده ، فأشبه ما لو عجز عن دفعه لمرض .

فصل‏:‏

والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر‏,‏ إن تلفت بغير تفريط لم يضمنها قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله يسأل عن الذين يكرون المظل أو الخيمة إلى مكة فيذهب من المكتري بسرق أو بذهاب‏,‏ هل يضمن‏؟‏ قال‏:‏ أرجو أن لا يضمن وكيف يضمن‏؟‏ إذا ذهب لا يضمن ولا نعلم في هذا خلافا وذلك لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها فكانت أمانة‏,‏ كما لو قبض العبد الموصى له بخدمته سنة أو قبض الزوج امرأته الأمة ويخالف العارية فإنه لا يستحق منفعتها وإذا انقضت المدة‏,‏ فعليه رفع يده وليس عليه الرد أومأ إليه في رواية ابن منصور‏,‏ فقيل له‏:‏ إذا اكترى دابة أو استعار أو استودع‏,‏ فليس عليه أن يحمله‏؟‏ فقال أحمد‏:‏ من استعار شيئا فعليه رده من حيث أخذه فأوجب الرد في العارية ولم يوجبه في الإجارة الوديعة ووجهه أنه عقد لا يقتضي الضمان‏,‏ فلا يقتضي رده ومؤنته كالوديعة وفارق العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة‏,‏ كالوديعة إن تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه‏,‏ وهذا قول بعض الشافعية وقال بعضهم‏:‏ يضمن لأنه بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في إمساكها أشبه العارية المؤقتة بعد وقتها ولنا أنها أمانة أشبهت الوديعة ولأنه لو وجب ضمانها لوجب ردها وأما العارية فإنها مضمونة في كل حال‏,‏ بخلاف مسألتنا ولأنه يجب ردها وعلى كل حال متى طلبها صاحبها وجب تسليمها إليه‏,‏ فإن امتنع من ردها لغير عذر صارت مضمونة كالمغصوبة‏.‏

فصل‏:‏

فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين‏,‏ فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد وهل تفسد الإجارة به‏؟‏ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع قال أحمد فيما إذا شرط ضمان العين‏:‏ الكراء والضمان مكروه وروى الأثرم‏,‏ بإسناده عن ابن عمر قال‏:‏ لا يصلح الكراء بالضمان وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون‏:‏ لا نكتري بضمان‏,‏ إلا أنه من شرط على كرى أنه لا ينزل متاعه بطن واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط‏,‏ فتعدى ذلك فتلف شيء مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن‏,‏ فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان فيه وإن شرطه لم يصح الشرط لأن ما لا يجب ضمانه لا يصيره الشرط مضمونا‏,‏ وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال‏:‏ المسلمون على شروطهم وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه‏,‏ ووجوبه بشرطه ‏(‏لقوله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ المسلمون على شروطهم‏)‏ فأما إن أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة‏,‏ أو لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها أو لا يسلك بها الطريق الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف‏,‏ ضمن لأنه متعد لشرط كريه فضمن ما تلف به كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها إلا قفيزا‏,‏ فحمل اثنين‏.‏

فصل‏:‏

وإن كانت الإجارة فاسدة لم يضمن العين أيضا إذا تلفت بغير تفريط ولا تعد لأنه عقد لا يقتضي الضمان صحيحه فلا يقتضيه فاسده‏,‏ كالوكالة والمضاربة وحكم كل عقد فاسد في وجوب الضمان حكم صحيحه فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده‏,‏ وما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده‏.‏

فصل‏:‏

وللمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة ويكبحها باللجام للاستصلاح ويحثها على السير ليلحق القافلة‏,‏ وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نخس بعير جابر وضربه وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرش بعيره بمحجنه وللرائض ضرب الدابة للتأديب وترتيب المشي‏,‏ والعدو والسير وللمعلم ضرب الصبيان للتأديب قال الأثرم‏:‏ سئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان قال‏:‏ على قدر ذنوبهم‏,‏ ويتوقى بجهده الضرب وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه ومن ضرب من هؤلاء كلهم الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف وبهذا في الدابة‏,‏ قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور‏,‏ وأبو يوسف ومحمد وقال الثوري وأبو حنيفة‏:‏ يضمن لأنه تلف بجنايته‏,‏ فضمنه كغير المستأجر وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي لأنه يمكنه تأدبيه بغير الضرب ولنا أنه تلف من فعل مستحق‏,‏ فلم يضمن كما لو تلف تحت الحمل ولأن الضرب معنى تضمنه عقد الإجارة‏,‏ فإذا تلف منه لم يضمن كالركوب وفارق غير المستأجر لأنه متعد وقول الشافعي‏:‏ يمكن التأديب بغير الضرب لا يصح فإن العادة خلافه ولو أمكن التأديب بدون الضرب‏,‏ لما جاز الضرب إذ فيه ضرر وإيلام مستغنى عنه وإن أسرف في هذا كله أو زاد على ما يحصل الغنى به‏,‏ أو ضرب من لا عقل له من الصبيان فعليه الضمان لأنه متعد حصل التلف بعدوانه‏.‏

مسألة‏:

قال: [ ولا ضمان على حجام ، ولا ختان ، ولا متطبب ، إذا عرف منهم حذق الصنعة ، ولم تجن أيديهم ]

وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به ، لم يضمنوا بشرطين : أحدهما أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ، ولهم بها بصارة ومعرفة ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع ، وإذا قطع مع هذا كان فعلا محرما ، فيضمن سرايته ، كالقطع ابتداء . الثاني أن لا تجني أيديهم ، فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع فإذا وجد هذان الشرطان . لم يضمنوا ؛ لأنهم قطعوا قطعا مأذونا فيه ، فلم يضمنوا ؛ سرايته ، كقطع الإمام يد السارق ، أو فعل فعلا مباحا مأذونا في فعله ، أشبه ما ذكرنا . فأما إن كان حاذقا وجنت يده ، مثل أن تجاوز قطع الختان إلى الحشفة ، أو إلى بعضها ، أو قطع في غير محل القطع ، أو يقطع الطبيب سلعة من إنسان ، فيتجاوزها ، أو يقطع بآلة كالة يكثر ألمها ، أو في وقت لا يصلح القطع فيه ، وأشباه هذا ، ضمن فيه كله ؛ لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ، فأشبه إتلاف المال ، ولأن هذا فعل محرم ، فيضمن سرايته ، كالقطع ابتداء وكذلك الحكم في النزاع ، والقاطع في القصاص ، وقاطع يد السارق . وهذا مذهب الشافعي ، وأصحاب الرأي ، ولا نعلم فيه خلافا .

فصل‏:‏

وإن ختن صبيا بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه‏,‏ أو من صبي بغير إذن وليه فسرت جنايته ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه‏,‏ وإن فعل ذلك الحاكم أو من له ولاية عليه أو فعله من أذنا له‏,‏ لم يضمن لأنه مأذون فيه شرعا‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز الاستئجار على الختان والمداواة وقطع السلعة لا نعلم فيه خلافا ولأنه فعل يحتاج إليه‏,‏ مأذون فيه شرعا فجاز الاستئجار عليه كسائر الأفعال المباحة‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز أن يستأجر حجاما ليحجمه‏,‏ وأجره مباح وهذا اختيار أبي الخطاب وهذا قول ابن عباس قال‏:‏ أنا آكله وبه قال عكرمة والقاسم‏,‏ وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين وربيعة ويحيى الأنصاري‏,‏ ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال القاضي‏:‏ لا يباح أجر الحجام وذكر أن أحمد نص عليه في مواضع‏,‏ وقال‏:‏ وإن أعطى شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه ويصرفه في علف دوابه‏,‏ وطعمة عبيده ومؤنة صناعته ولا يحل‏,‏ له أكله وممن كره كسب الحجام عثمان وأبو هريرة والحسن‏,‏ والنخعي وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏كسب الحجام خبيث‏)‏ رواه مسلم وقال‏:‏ أطعمه ناضحك ورقيقك ‏"‏ ولنا ما روى ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراما لم يعطه‏)‏ متفق عليه وفي لفظ‏:‏ لو علمه خبيثا لم يعطه ولأنها منفعة مباحة‏,‏ لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليها كالبناء والخياطة‏,‏ ولأن بالناس حاجة إليها ولا نجد كل أحد متبرعا بها فجاز الاستئجار عليها‏,‏ كالرضاع وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في كسب الحجام‏:‏ ‏(‏أطعمه رقيقك‏)‏ دليل على إباحة كسبه إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله فإن الرقيق آدميون‏,‏ يحرم عليهم ما حرمه الله تعالى كما يحرم على الأحرار وتخصيص ذلك بما أعطيه من غير استئجار تحكم لا دليل عليه‏,‏ وتسميته كسبا خبيثا لا يلزم منه التحريم فقد سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما وإنما كره النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك للحر تنزيها له لدناءة هذه الصناعة وليس عن أحمد نص في تحريم كسب الحجام‏,‏ ولا الاستئجار عليها وإنما قال‏:‏ نحن نعطيه كما أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونقول له كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن أكله نهاه وقال‏:‏ ‏"‏ اعلفه الناضح والرقيق ‏"‏ وهذا معنى كلامه في جميع الروايات‏,‏ وليس هذا صريحا في تحريمه بل فيه دليل على إباحته كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله‏,‏ على ما بينا وأن إعطاءه للحجام دليل على إباحته إذ لا يعطيه ما يحرم عليه وهو عليه السلام يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات‏,‏ فكيف يعطيهم إياها ويمكنهم منها وأمره بإطعام الرقيق منها دليل على الإباحة‏,‏ فيتعين حمل نهيه عن أكلها على الكراهة دون التحريم وكذلك قول الإمام أحمد فإنه لم يخرج عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله وإنما قصد اتباعه -صلى الله عليه وسلم- وكذلك سائر من كرهه من الأئمة‏,‏ يتعين حمل كلامهم على هذا ولا يكون في المسألة قائل بالتحريم وإذا ثبت هذا فإنه يكره للحر أكل كسب الحجام‏,‏ ويكره تعلم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها لما فيها من الأخبار ولأن فيها دناءة‏,‏ فكره الدخول فيها كالكسح وعلى هذا يحمل قول الأئمة الذين ذكرنا عنهم كراهتها جمعا بين الأخبار الواردة فيها‏,‏ وتوفيقا بين الأدلة الدالة عليها والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشعر‏,‏ وتقصيره والختان وقطع شيء من الجسد للحاجة إليه‏,‏ فجائز لأن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏كسب الحجام خبيث‏)‏ يعني بالحجامة كما نهى عن مهر البغي أي في البغاء وكذلك لو كسب بصناعة أخرى‏,‏ لم يكن خبيثا بغير خلاف وهذا النهي مخالف للقياس فيختص بالمحل الذي ورد فيه ولأن هذه الأمور تدعو الحاجة إليها‏,‏ ولا تحريم فيها فجازت الإجارة فيها وأخذ الأجر عليها‏,‏ كسائر المنافع المباحة‏.‏

فصل‏:

ويجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينه لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه ويحتاج أن يقدر ذلك بالمدة لأن العمل غير مضبوط‏,‏ فيقدر به ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله مرة في كل يوم أو مرتين فأما إن قدرها بالبرء فقال القاضي‏:‏ لا يجوز لأنه غير معلوم وقال ابن أبي موسى‏:‏ لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء لأن أبا سعيد حين رقى الرجل‏,‏ شارطه على البرء والصحيح إن شاء الله أن هذا يجوز لكن يكون جعالة لا إجارة فإن الإجارة لا بد فيها من مدة‏,‏ أو عمل معلوم فأما الجعالة فتجوز على عمل مجهول‏,‏ كرد اللقطة والآبق وحديث أبي سعيد في الرقية إنما كان جعالة فيجوز ها هنا مثله إذا ثبت هذا‏,‏ فإن الكحل إن كان من العليل جاز لأن آلات العمل تكون من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها وإن شارطه على الكحل جاز وقال القاضي‏:‏ يحتمل أن لا يجوز لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة‏,‏ فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط ولنا أن العادة جارية به ويشق على العليل تحصيله‏,‏ وقد يعجز عنه بالكلية فجاز ذلك كالصبغ من الصباغ‏,‏ واللبن في الرضاع والحبر والأقلام من الوراق وما ذكروه ينتقض بهذه الأصول وفارق لبن الحائط لأن العادة تحصيل المستأجر له ولا يشق ذلك‏,‏ بخلاف مسألتنا وقال أصحاب مالك‏:‏ يجوز أن يستأجره ليبني له حائطا والآجر من عنده لأنه اشترط ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان مباحا معروفا جاز‏,‏ كما لو استأجره ليصبغ ثوبا والصبغ من عنده ولنا أن عقد الإجارة عقد على المنفعة فإذا شرط فيه بيع العين‏,‏ صار كبيعتين في بيعة ويفارق الصبغ وما ذكرنا من الصورة التي جاز فيها ذلك من حيث إن الحاجة داعية إليه لأن تحصيل الصبغ يشق على صاحب الثوب‏,‏ وقد يكون الصبغ لا يحصل إلا في حيث يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا الثوب فجاز لمسيس الحاجة إليه‏,‏ بخلاف مسألتنا‏.‏

فصل‏:‏

وإذا استأجره مدة ، فكحله فيها ، فلم تبرأ عينه ، استحق الأجر . وبه قال الجماعة . وحكي عن مالك ، أنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه ، ولم يحك ذلك أصحابه ، وهو فاسد ؛ لأن المستأجر قد وفى العمل الذي وقع العقد عليه ، فوجب له الأجر ، وإن لم يحصل الغرض ، كما لو استأجره لبناء حائط يوما ، أو لخياطة قميص ، فلم يتمه فيه . وإن برئت عينه في أثناء المدة ، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة ؛ لأنه قد تعذر العمل ، فأشبه ما لو حجز عنه أمر غالب ، وكذلك لو مات فإن امتنع من الاكتحال مع بقاء المرض ، استحق الكحال الأجر بمضي المدة ، كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعمله فيه . فأما إن شارطه على البرء ، فإنه يكون جعالة ، فلا يستحق شيئا حتى يوجد البرء ، سواء وجد قريبا أو بعيدا ، فإن برئ بغير كحله ، أو تعذر الكحل لموته ، أو غير ذلك من الموانع التي من جهة المستأجر ، فله أجر مثله ، كما لو عمل العامل في الجعالة ، ثم فسخ العقد . وإن امتنع لأمر من جهة الكحال أو غير الجاعل ، فلا شيء له . وإن فسخ الجاعل الجعالة بعد عمل الكحال ، فعليه أجر عمله ، فإن فسخ الكحال فلا شيء له ؛ لأنها جعالة ؛ فثبت فيها ما ذكرناه .

فصل‏:‏

ويجوز أن يستأجر طبيبا ليداويه والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل‏,‏ للحاجة إليه وجرى العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ها هنا‏,‏ فثبت الحكم فيه على وفق الأصل والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه لأنها منفعة مباحة مقصودة فجاز الاستئجار على فعلها كالختان فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه‏,‏ ضمنه لأنه من جنايته وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة لأن قلعه لا يجوز وإن لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه‏,‏ لم يجبر عليه لأن إتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررا وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه‏,‏ إذا كان أهلا لذلك وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته‏,‏ وقدر ألمه‏.‏

فصل‏:‏

ومن استؤجر على عمل موصوف في الذمة كخياطة أو بناء أو قلع ضرس‏,‏ فبذل الأجير نفسه للعمل فلم يمكنه المستأجر لم تستقر الأجرة بذلك لأنه عقد على المنفعة من غير تقدير‏,‏ فلم يستقر بدلها بالبذل كالصداق لا يستقر ببذل المرأة نفسها ويفارق حبس الدابة مدة الإجارة لأن المنافع تلفت تحت يده بخلاف مسألتنا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد ‏]‏

لا نعلم خلافا في صحة استئجار الراعي‏,‏ وقد دل عليه قول الله تعالى مخبرا عن شعيب أنه قال‏:‏ ‏{‏إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج‏}‏ وقد علم أن موسى عليه السلام إنما آجر نفسه لرعاية الغنم إذا ثبت هذا‏,‏ فإنه لا ضمان على الراعي فيما تلف من الماشية ما لم يتعد ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الشعبي فإنه روي عنه أنه ضمن الراعي ولنا أنه مؤتمن على حفظها‏,‏ فلم يضمن من غير تعد كالمودع ولأنها عين قبضها بحكم الإجارة‏,‏ فلم يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة فأما ما تلف بتعديه فيضمنه بغير خلاف‏,‏ مثل أن ينام عن السائمة أو يغفل عنها أو يتركها تتباعد منه‏,‏ أو تغيب عن نظره وحفظه أو يضربها ضربا يسرف فيه أو في غير موضع الضرب‏,‏ أو من غير حاجة إليه أو سلك بها موضعا تتعرض فيه للتلف وأشباه هذا مما يعد تفريطا وتعديا‏,‏ فتتلف به فعليه ضمانها لأنها تلفت بعدوانه فضمنها كالمودع إذا تعدى‏,‏ وإن اختلفا في التعدي وعدمه فالقول قول الراعي لأنه أمين وإن فعل فعلا اختلفا في كونه تعديا رجع إلى أهل الخبرة ولو جاء بجلد شاة‏,‏ وقال‏:‏ ماتت قبل قوله ولم يضمن وعن أحمد أنه يضمن‏,‏ ولا يقبل قوله والصحيح الأول لأن الأمناء تقبل أقوالهم كالمودع ولأنه يتعذر عليه إقامة البينة في الغالب‏,‏ فأشبه المودع وكذلك لو ادعى موتها من غير أن يأتي بجلدها‏.‏

فصل‏:‏

ولا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة لأن العمل لا ينحصر ويجوز العقد على رعي ماشية معينة وعلى جنس في الذمة فإن عقد على ماشية معينة‏,‏ فذكر أصحابنا أنه يتعلق بأعيانها كما لو استأجره لخياطة ثوب بعينه فلا يجوز إبداله‏,‏ ويبطل العقد بتلفها وإن تلف بعضها بطل عقد الإجارة فيه وله أجر ما بقي منها بالحصة وإن ولدت سخالا‏,‏ لم يكن عليه رعيها لأنها زيادة لم يتناولها العقد ويحتمل أن لا يتعلق بأعيانها لأنها ليست المعقود عليها وإنما يستوفي المنفعة بها فأشبه ما لو استأجر ظهرا ليركبه‏,‏ جاز أن يركب غيره مكانه ولو استأجر دارا ليسكنها جاز أن يسكنها مثله‏,‏ ولو استأجر أرضا ليزرعها حنطة جاز أن يزرعها ما هو مثلها في الضرر أو أدنى منها‏,‏ وإنما المعقود عليه منفعة الراعي ولهذا يجب له الأجر إذا سلم نفسه وإن لم يرع ويفارق الثوب في الخياطة لأن الثياب في مظنة الاختلاف في سهولة خياطتها ومشقتها‏,‏ بخلاف الرعي فعلى هذا له إبدالها بمثلها وإن تلف بعضها لم ينفسخ العقد فيه‏,‏ وكان له إبداله وإن وقع العقد على موصوف في الذمة فلا بد من ذكر جنس الحيوان ونوعه إبلا‏,‏ أو بقرا أو غنما أو ضأنا‏,‏ أو معزا وإن أطلق ذكر البقر والإبل لم يتناول الجواميس والبخاتي لأن إطلاق الاسم لا يتناولها عرفا وإن وقع العقد في مكان يتناولها إطلاق الاسم احتاج إلى ذكر نوع ما يراه منها‏,‏ كالغنم لأن كل نوع له أثر في إتعاب الراعي ويذكر الكبر والصغر فيقول‏:‏ كبارا أو سخالا‏,‏ أو عجاجيل أو فصلانا إلا أن يكون ثم قرينة أو عرف صارف إلى بعضها‏,‏ فيغني عن الذكر وإذا عقد على عدد موصوف كالمائة لم يجب عليه رعي زيادة عليها لا من سخالها ولا من غيرها وإن أطلق العقد ولم يذكر عددا‏,‏ لم يجز وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال القاضي‏:‏ يصح ويحمل على ما جرت به العادة كالمائة من الغنم ونحوها وهو قول بعض أصحاب الشافعي والأول أصح لأن العادة في ذلك تختلف وتتباين كثيرا‏,‏ إذ العمل يختلف باختلافه‏.‏

فصل‏:

فيما تجوز إجارته تجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها بحكم الأصل‏,‏ كالأرض والدار والعبد‏,‏ والبهيمة والثياب والفساطيط‏,‏ والحبال والخيام والمحامل‏,‏ والسرج واللجام والسيف‏,‏ والرمح وأشباه ذلك وقد ذكرنا كثيرا مما تجوز إجارته في مواضعه وتجوز إجارة الحلي نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله وبهذا قال الثوري‏,‏ والشافعي وإسحاق وأبو ثور‏,‏ وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه قال في إجارة الحلي‏:‏ ما أدري ما هو‏؟‏ قال القاضي‏:‏ هذا محمول على إجارته بأجرة من جنسه فأما بغير جنسه‏,‏ فلا بأس به لتصريح أحمد بجوازه وقال مالك في إجارة الحلي والثياب‏:‏ هو من المشتبهات ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة‏,‏ وليس ذلك من المقاصد الأصلية ومن منع ذلك بأجر من جنسه فقد احتج له بأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منها أجزاء وإن كانت يسيرة‏,‏ فيحصل الأجر في مقابلتها ومقابلة الانتفاع بها فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة‏,‏ مع بقاء عينها فأشبهت سائر ما تجوز إجارته والزينة من المقاصد الأصلية فإن الله تعالى امتن بها علينا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتركبوها وزينة‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ وأباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حرمه على الرجال‏,‏ لحاجتهن إلى التزين للأزواج وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن على اقتنائه وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح لأن ذلك يسير لا يقابل بعوض‏,‏ ولا يكاد يظهر في وزن ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع لا في مقابلة الأجزاء لأن الأجر في الإجارة‏,‏ إنما هو عوض المنفعة كما في سائر المواضع ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب‏,‏ لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر لإفضائه إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

وتجوز إجارة الدراهم والدنانير للوزن والتحلي في مدة معلومة وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي‏,‏ والوجه الآخر أنها لا تجوز إجارتها لأن هذه المنفعة ليست المقصودة منها ولذلك لا تضمن منفعتها بغصبها‏,‏ فأشبهت الشمع ولنا أنها عين أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة فأشبهت الحلي وفارقت الشمع فإنه لا ينتفع به إلا بما أتلف عينه إذا ثبت هذا‏,‏ فإنه إن ذكر ما يستأجره له وعينه فحسن‏,‏ وإن أطلق الإجارة فقال أبو الخطاب‏:‏ تصح الإجارة وينتفع بها فيما شاء منهما لأن منفعتهما في الإجارة متعينة في التحلي والوزن‏,‏ وهما متقاربان فوجب أن تحمل الإجارة عند الإطلاق عليهما كاستئجار الدار مطلقا‏,‏ فإنه يتناول السكنى ووضع المتاع فيها وقال القاضي‏:‏ لا تصح الإجارة وتكون قرضا وهذا مذهب أبي حنيفة لأن الإجارة تقتضي الانتفاع‏,‏ والانتفاع المعتاد بالدراهم والدنانير إنما هو بأعيانها فإذا أطلق الانتفاع حمل على الانتفاع المعتاد وقال أصحاب الشافعي‏:‏ لا تصح الإجارة‏,‏ ولا تكون قرضا لأن التحلي ينقصها والوزن لا ينقصها فقد اختلفت جهة الانتفاع‏,‏ فلم يجز إطلاقها ولا يجوز أن يعبر بها عن القرض لأن القرض تمليك للغير والإجارة تقتضي الانتفاع مع بقاء العين فلم يجز التعبير بأحدهما عن الآخر ولأن التسمية والألفاظ تؤخذ نقلا‏,‏ ولم يعهد في اللسان التعبير بالإجارة عن القرض وقول أبي الخطاب أصح -إن شاء الله تعالى- لأن العقد متى أمكن حمله على الصحة كان أولى من إفساده‏,‏ وقد أمكن حمله على إجارتها للجهة التي تجوز إجارتها فيها وقول القاضي لا يصح لأن الإجارة إنما تقتضي انتفاعا مع بقاء العين فلا تحمل على غير ذلك وما ذكر الآخرون من نقص العين بالاستعمال في التحلي فبعيد فإن ذلك يسير لا أثر له فوجوده كعدمه‏.‏

فصل‏:

ويجوز أن يستأجر شجرا ونخيلا‏,‏ ليجفف عليها الثياب أو يبسطها عليها ليستظل بظلها ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان لما ذكروه في الأثمان ولنا أنها لو كانت مقطوعة‏,‏ لجاز استئجارها لذلك فكذلك إذا كانت ثابتة وذلك لأن الانتفاع يحصل بهما على السواء في الحالتين فما جاز في إحداهما يجوز في الأخرى‏,‏ ولأنها شجرة فجاز استئجارها لذلك كالمقطوعة ولأنها منفعة مقصودة‏,‏ يمكن استيفاؤها مع بقاء العين فجاز العقد عليها كما لو كانت مقطوعة‏,‏ ولأنها عين يمكن استيفاء هذه المنفعة منها فجاز استئجارها لها‏,‏ كالحبال والخشب والشجر المقطوع‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز استئجار غنم لتدرس له طينا أو زرعا ولأصحاب الشافعي فيه وجهان لأنها منفعة غير مقصودة من هذا الحيوان فأشبهت النخيل ولنا أنها منفعة مباحة‏,‏ يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فأشبهت استئجار البقر لدياس الزرع‏.‏

فصل‏:

ويجوز استئجار ما يبقى من الطيب والصندل وأقطاع الكافور والند لتشمه المرضى وغيرهم مدة‏,‏ ثم يرده لأنها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتحلي مع أنه لا ينفك من إخلاق وبلى‏.‏

فصل‏:‏

وتجوز إجارة الحائط‏,‏ ليضع عليها خشبا معلوما مدة معلومة وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز ولنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على تسليمها واستيفائها‏,‏ فجاز عقد الإجارة عليها كاستئجار السطح للنوم عليه‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز استئجار دار يتخذها مسجدا يصلي فيه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصح لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد إجارة بحال‏,‏ فلا تجوز الإجارة لذلك ولنا أن هذه منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فجاز استئجار العين لها‏,‏ كالسكنى ويفارق الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة‏,‏ بخلاف بناء المساجد‏.‏

فصل‏:‏

وذكر ابن عقيل أنه يجوز استئجار البئر ليستقي منها أياما معلومة لأن هواء البئر وعمقها فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فيه‏,‏ وأما نفس الماء فيؤخذ على أصل الإباحة والله الموفق‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز استئجار الفهد والبازي والصقر للصيد في مدة معلومة لأن فيه نفعا مباحا تجوز إعارته له‏,‏ فجازت إجارته له كالدابة وتجوز إجارة كتب العلم التي يجوز بيعها للانتفاع بها في القراءة فيها‏,‏ والنسخ منها لما ذكرناه وتجوز إجارة درج فيه خط حسن يكتب عليه ويتمثل منه لذلك‏.‏

فصل‏:‏

وما لا تجوز إجارته أقسام‏:‏ أحدها ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه‏,‏ كالمطعوم والمشروب والشمع ليشعله لأن الإجارة عقد على المنافع وهذه لا ينتفع بها إلا بإتلاف عينها‏,‏ فإن استأجر شمعة يسرجها ويرد بقيتها وثمن ما ذهب‏,‏ وأجر الباقي كان فاسدا لأنه يشمل بيعا وإجارة وما وقع عليه البيع مجهول‏,‏ وإذا جهل المبيع جهل المستأجر أيضا فيفسد العقدان ولو استأجر شمعا ليتجمل به‏,‏ ويرده من غير أن يشعل منه شيئا لم يجز لأن ذلك ليس بمنفعة مرعية في الشرع فبذل المال فيه سفه‏,‏ وأخذه أكل مال بالباطل فلم يجز كما لو استأجر خبزا لينظر إليه‏,‏ وكذلك لو استأجر طعاما ليتجمل به على مائدته ثم يرده لم يجز لما ذكرنا وهكذا سائر الأشياء‏,‏ ولا يصح استئجار ما لا يبقى من الرياحين كالورد والبنفسج والريحان الفارسي وأشباهه‏,‏ لشمها لأنها تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات ولا يجوز استئجار الغنم ولا الإبل والبقر‏,‏ ليأخذ لبنها ولا ليسترضعها لسخالة ونحوها ولا استئجارها ليأخذ صوفها‏,‏ ولا شعرها ولا وبرها ولا استئجار شجرة‏,‏ ليأخذ ثمرتها أو شيئا من عينها‏.‏

فصل‏:‏

ولا تجوز إجارة الفحل للضراب وهذا ظاهر مذهب الشافعي وأصحاب الرأي‏,‏ وأبي ثور وابن المنذر وخرج أبو الخطاب وجها في جوازه لأنه انتفاع مباح والحاجة تدعو إليه‏,‏ فجاز كإجارة الظئر للرضاع والبئر ليستقي منها الماء ولأنها منفعة تستباح بالإعارة‏,‏ فتستباح بالإجارة كسائر المنافع وهذا مذهب الحسن وابن سيرين ولنا ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن عسب الفحل‏)‏‏:‏ متفق عليه‏,‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏نهى عن ضراب الجمل‏)‏ ولأن المقصود الماء الذي يخلق منه الولد فيكون عقد الإجارة لاستيفاء عين غائبة فلم يجز‏,‏ كإجارة الغنم لأخذ لبنها وهذا أولى فإن هذا الماء محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عنه‏,‏ كالميتة والدم وهو مجهول فأشبه اللبن في الضرع فأما من أجازه‏,‏ فينبغي أن يوقع العقد على العمل ويقدره بمرة أو مرتين أو أكثر وقيل‏:‏ يقع العقد على مدة وهذا بعيد لأن من أراد إطراق فرسه مرة فقدره بمدة تزيد على قدر الفعل‏,‏ لم يمكن استيعابها به وإن اقتصر على مقداره فربما لا يحصل الفعل فيه‏,‏ ويتعذر أيضا ضبط مقدار الفعل فيتعين التقدير بالفعل إلا أن يكتري فحلا لإطراق ماشية كثيرة‏,‏ كفحل يتركه في إبله أو تيس في غنمه فإن هذا إنما يكتري مدة معلومة والمذهب أنه لا يجوز إجارته‏,‏ فإن احتاج إنسان إلى ذلك ولم يجد من يطرق له جاز له أن يبذل الكراء‏,‏ وليس للمطرق أخذه قال عطاء‏:‏ لا يأخذ عليه شيئا ولا بأس أن يعطيه إذا لم يجد من يطرق له ولأن ذلك بذل مال لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها فجاز‏,‏ كشراء الأسير ورشوة الظالم ليدفع ظلمه وإن أطرق إنسان فحله بغير إجارة ولا شرط فأهديت له هدية‏,‏ أو أكرم بكرامة لذلك فلا بأس به لأنه فعل معروفا فجازت مجازاته عليه‏,‏ كما لو أهدى هدية‏.‏

فصل‏:‏

القسم الثاني ما منفعته محرمة كالزنى والزمر والنوح والغناء‏,‏ فلا يجوز الاستئجار لفعله وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة‏,‏ وصاحباه وأبو ثور وكره ذلك الشعبي والنخعي لأنه محرم‏,‏ فلم يجز الاستئجار عليه كإجارة أمته للزنى ولا يجوز استئجار كاتب ليكتب له غناء ونوحا وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز ولنا أنه انتفاع بمحرم فأشبه ما ذكرنا ولا يجوز الاستئجار على كتابة شعر محرم‏,‏ ولا بدعة ولا شيء محرم لذلك ولا يجوز الاستئجار على حمل الخمر لمن يشربها ولا على حمل خنزير ولا ميتة لذلك وبهذا قال أبو يوسف‏,‏ ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز لأن العمل لا يتعين عليه بدليل أنه لو حمله مثله جاز‏,‏ ولأنه لو قصد إراقته أو طرح الميتة جاز وقد روي عن أحمد في من حمل خنزيرا أو ميتة أو خمرا لنصراني‏:‏ أكره أكل كرائه‏,‏ ولكن يقضى للحمال بالكراء فإذا كان لمسلم فهو أشد قال القاضي‏:‏ هذا محمول على أنه استأجره ليريقها فأما للشرب فمحظور‏,‏ ولا يحل أخذ الأجرة عليه وهذا التأويل بعيد لقوله‏:‏ أكره أكل كرائه وإذا كان لمسلم فهو أشد ولكن المذهب خلاف هذه الرواية لأنه استئجار لفعل محرم فلم يصح‏,‏ كالزنى ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن حاملها والمحمولة إليه وقوله‏:‏ لا يتعين يبطل باستئجار أرض ليتخذها مسجدا وأما حمل هذه لإراقتها والميتة لطرحها والاستئجار للكنف‏,‏ فجائز لأن ذلك كله مباح وقد استأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا طيبة فحجمه وقال أحمد في رواية ابن منصور‏,‏ في الرجل يؤجر نفسه لنظارة كرم النصراني‏:‏ يكره ذلك لأن الأصل في ذلك راجع إلى الخمر‏.‏

فصل‏:‏

ويكره أن يؤجر الرجل نفسه لكسح الكنف ويكره له أكل أجره لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏كسب الحجام خبيث‏)‏ ونهى الحر عن أكله فهذا أولى وقد روى عن ابن عباس‏,‏ أن رجلا حج ثم أتاه فقال له‏:‏ إني رجل أكنس‏,‏ فما ترى في مكسبي‏؟‏ قال‏:‏ أي شيء تكنس‏؟‏ قال‏:‏ العذرة قال‏:‏ ومنه حججت ومنه تزوجت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏,‏ قال‏:‏ أنت خبيث وحجك خبيث وما تزوجت خبيث أو نحو هذا‏,‏ ذكره سعيد بن منصور في ‏"‏ سننه ‏"‏ بمعناه ولأن فيه دناءة‏,‏ فكره كالحجامة فأما الإجارة في الجملة‏,‏ فجائزة لأن الحاجة داعية إليها فلا تندفع بدون إباحة الإجارة فوجب إباحتها‏,‏ كالحجامة‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار وبه قال الجماعة وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان بيتك في السواد‏,‏ فلا بأس أن تؤجره لذلك وخالفه صاحباه واختلف أصحابه في تأويل قوله ولنا أنه فعل محرم فلم تجز الإجارة عليه‏,‏ كإجارة عبده للفجور ولو اكترى ذمي من مسلم داره فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه وبذلك قال الثوري وقال أصحاب الرأي‏:‏ إن كان بيته في السواد والجبل‏,‏ فله أن يفعل ما شاء ولنا أنه فعل محرم جاز المنع منه في المصر فجاز في السواد‏,‏ كقتل النفس المحرمة‏.‏

فصل‏:‏

القسم الثالث ما يحرم بيعه إلا الحر والوقف وأم الولد والمدبر‏,‏ فإنه يجوز إجارتها وإن حرم بيعها وما عدا ذلك فلا تجوز إجارته‏,‏ سواء كان ممن لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والجمل الناد‏,‏ والبهيمة الشاردة والمغصوب من غير غاصبه ممن لا يقدر على انتزاعه منه فإنه لا تجوز إجارته لأنه لا يمكن تسليم المعقود عليه وإن كان مما تجهل صفته‏,‏ فإنه لا تجوز إجارته في ظاهر المذهب أو كان ممن لا نفع فيه كسباع البهائم‏,‏ أو الطير التي لا تصلح للاصطياد ولا تجوز إجارة الكلب ولا الخنزير بحال ويتخرج جواز إجارة الكلب الذي يباح اقتناؤه لأن فيه نفعا مباحا تجوز له إعارته‏,‏ فجازت إجارته له كغيره ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولا تجوز إجارة ما لا يقدر على تسليم منفعته سواء جاز بيعه أو لم يجز‏,‏ مثل أن يغصب منفعته بأن يدعي إنسان أن هذه الدار في إجارته عاما ويغلب صاحبها عليها‏,‏ فإنه لا تجوز إجارتها في هذا العام إلا من غاصبها أو ممن يقدر على أخذها منه قال أصحابنا‏:‏ ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة‏,‏ وزفر لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته كالمغصوب وذلك لأنه لا يقدر على تسليمه إلا بتسليم نصيب شريكه ولا ولاية له على مال شريكه واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك وقد أومأ إليه أحمد‏,‏ وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف‏,‏ ومحمد لأنه معلوم يجوز بيعه فجازت إجارته كالمفرد ولأنه عقد في ملكه‏,‏ يجوز مع شريكه فجاز مع غيره كالبيع ولأنه يجوز إذا فعله الشريكان معا‏,‏ فجاز لأحدهما فعله في نصيبه مفردا كالبيع ومن نصر الأول فرق بين محل النزاع وبين ما إذا آجره الشريكان أو آجره لشريكه‏,‏ بأنه يمكن التسليم إلى المستأجر فأشبه إجارة المغصوب من غاصبه دون غيره وإن كانت الدار لواحد فآجر نصفها‏,‏ صح لأنه يمكنه تسليمه ثم إن آجر نصفها الآخر للمستأجر الأول صح فإنه يمكنه تسليمه إليه وإن آجره لغيره‏,‏ ففيه وجهان بناء على المسألة التي قبلها لأنه لا يمكنه تسليم ما آجره إليه وإن آجر الدار لاثنين لكل واحد منهما نصفها فكذلك لأنه لا يمكنه تسليم نصيب كل واحد منهما إليه‏.‏

فصل‏:

وفي إجارة المصحف وجهان أحدهما لا تصح إجارته‏,‏ مبنيا على أنه لا يصح بيعه وعلة ذلك إجلال كلام الله وكتابه عن المعاوضة به وابتذاله بالثمن في البيع‏,‏ والأجر في الإجارة والثاني تجوز إجارته وهو مذهب الشافعي لأنه انتفاع مباح تجوز الإعارة من أجله‏,‏ فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب فأما سائر الكتب الجائز بيعها‏,‏ فتجوز إجارتها ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنها لا تجوز إجارتها لأنه علل منع إجارة المصحف بأنه ليس في ذلك أكثر من النظر إليه ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك بدليل أنه لا يجوز أن يستأجر سقفا لينظر إلى عمله وتصاويره‏,‏ أو شمعا ليتجمل به ولنا أنه انتفاع مباح يحتاج إليه وتجوز الإعارة له فجازت إجارته كسائر المنافع وفارق النظر إلى السقف فإنه لا حاجة إليه‏,‏ ولا جرت العادة بالإعارة من أجله وفي مسألتنا يحتاج إلى القراءة في الكتب والتحفظ منها والنسخ والسماع منها والرواية‏,‏ وغير ذلك من الانتفاع المقصود المحتاج إليه‏.‏

فصل‏:

ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته نص عليه أحمد في رواية الأثرم فقال‏:‏ إن آجر نفسه من الذمي في خدمته‏,‏ لم يجز وإن كان في عمل شيء جاز وهذا أحد قولي الشافعي‏,‏ وقال في الآخر‏:‏ تجوز لأنه تجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة فجاز فيها كإجارته من المسلم ولنا أنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر‏,‏ وإذلاله له واستخدامه أشبه البيع‏,‏ يحققه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه والبيع لا يتعين فيه ذلك فإذا منع منه‏,‏ فلأن يمنع من الإجارة أولى فأما إن آجر نفسه منه في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب وقصارته‏,‏ جاز بغير خلاف نعلمه لأن عليا رضي الله عنه آجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك‏,‏ فلم ينكره وكذلك الأنصاري ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه أشبه مبايعته وإن آجر نفسه منه لعمل غير الخدمة‏,‏ مدة معلومة جاز أيضا في ظاهر كلام أحمد لقوله‏,‏ في رواية الأثرم‏:‏ وإن كان في عمل شيء جاز ونقل عنه أحمد بن سعيد‏:‏ لا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي وهذا مطلق في نوعي الإجارة وذكر بعض أصحابنا أن ظاهر كلام أحمد منع ذلك‏,‏ وأشار إلى ما رواه الأثرم واحتج بأنه عقد يتضمن حبس المسلم أشبه البيع والصحيح ما ذكرنا‏,‏ وكلام أحمد إنما يدل على خلاف ما قاله فإنه خص المنع بالإجارة للخدمة وأجاز إجارته للعمل وهذا إجارة للعمل ويفارق البيع‏,‏ فإن فيه إثبات الملك على المسلم ويفارق إجارته للخدمة لتضمنها الإذلال‏.‏

فصل‏:‏

نقل إبراهيم الحربي‏,‏ عن أحمد أنه سئل عن الرجل يكتري الديك يوقظه لوقت الصلاة‏:‏ لا يجوز وذلك لأن ذلك يقف على فعل الديك ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره‏,‏ وقد يصيح وقد لا يصيح وربما صاح بعد الوقت‏.‏

فصل‏:‏

القسم الرابع‏,‏ القرب التي يختص فاعلها بكونه من أهل القربة يعني أنه يشترط كونه مسلما كالإمامة‏,‏ والأذان والحج وتعليم القرآن نص عليه أحمد وبه قال عطاء‏,‏ والضحاك بن قيس وأبو حنيفة والزهري وكره الزهري‏,‏ وإسحاق تعليم القرآن بأجر وقال عبد الله بن شقيق‏:‏ هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت وممن كره أجرة التعليم مع الشرط‏:‏ الحسن وابن سيرين وطاوس‏,‏ والشعبي والنخعي وعن أحمد رواية أخرى‏,‏ يجوز ذلك حكاها أبو الخطاب ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال‏:‏ التعليم أحب إلى من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين‏,‏ ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء‏,‏ فيلقى الله تعالى بأمانات الناس التعليم أحب إلي وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم وممن أجاز ذلك مالك‏,‏ والشافعي ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه وإذا جاز تعليم القرآن عوضا في باب النكاح وقام مقام المهر‏,‏ جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله‏)‏ حديث صحيح وثبت ‏(‏أن أبا سعيد رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ وأخذ أصحابه الجعل‏,‏ فأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه وسألوه فقال‏:‏ لعمري لمن أكل برقية باطل‏,‏ لقد أكلت برقية حق كلوا واضربوا لي معكم بسهم‏)‏ ولذا جاز أخذ الأجر لأنه في معناه ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال‏,‏ فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد والقناطر ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك‏,‏ فإنه يحتاج إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه الحج وعجز عن فعله ولا يكاد يوجد متبرع بذلك فيحتاج إلى بذل الأجر فيه ووجه الرواية الأولى‏,‏ ما روى عثمان بن أبي العاص قال‏:‏ ‏(‏إن آخر ما عهد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وروى عبادة بن الصامت قال‏:‏ علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة‏,‏ فأهدى إلي رجل منهم قوسا قال‏:‏ قلت‏:‏ قوس وليست بمال قال‏:‏ قلت أتقلدها في سبيل الله فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقص عليه القصة قال‏:‏ ‏(‏إن سرك أن يقلدك الله قوسا من نار‏,‏ فاقبلها‏)‏ وعن أبي بن كعب أنه ‏(‏علم رجلا سورة من القرآن فأهدى إليه خميصة أو ثوبا‏,‏ فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار‏)‏ وعن أبي‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن‏,‏ فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له‏:‏ هلمي بطعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شيء فذكرته للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله‏,‏ فكل منه وإن كان يتحفك به فلا تأكله‏)‏ وعن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري‏,‏ قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه‏,‏ ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به‏)‏ روى هذه الأحاديث كلها الأثرم في ‏"‏ سننه ‏"‏ ولأن من شرط صحة هذه الأفعال‏,‏ كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الأجر عليها كما لو استأجر قوما يصلون خلفه الجمعة أو التراويح فأما الأخذ على الرقية‏,‏ فإن أحمد اختار جوازه وقال‏:‏ لا بأس وذكر حديث أبي سعيد والفرق بينه وبين ما اختلف فيه أن الرقية نوع مداواة‏,‏ والمأخوذ عليها جعل والمداواة يباح أخذ الأجر عليها والجعالة أوسع من الإجارة‏,‏ ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله‏)‏ يعني به الجعل أيضا في الرقية لأنه ذكر ذلك في سياق خبر الرقية وأما جعل التعليم صداقا فعنه فيه اختلاف وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق إنما قال -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏زوجتكها على ما معك من القرآن‏)‏ فيحتمل أنه زوجه إياها بغير صداق‏,‏ إكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ونقل عنه جوازه والفرق بين المهر والأجر‏,‏ أن المهر ليس بعوض محض وإنما وجب نحلة ووصلة ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته‏,‏ وصح مع فساده بخلاف الأجر في غيره فأما الرزق من بيت المال‏,‏ فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الأمور لأن بيت المال لمصالح المسلمين فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه كان من المصالح‏,‏ وكان للآخذ له أخذه لأنه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الأجر‏.‏

فصل‏:

فإن أعطي المعلم شيئا من غير شرط‏,‏ فظاهر كلام أحمد جوازه وقال فيما نقل عنه أيوب بن سافري‏:‏ لا يطلب ولا يشارط‏,‏ فإن أعطي شيئا أخذه وقال في رواية أحمد بن سعيد‏:‏ أكره أجر المعلم إذا شرط وقال‏:‏ إذا كان المعلم لا يشارط ولا يطلب من أحد شيئا‏,‏ إن أتاه شيء قبله كأنه يراه أهون وكرهه طائفة من أهل العلم لما تقدم من حديث القوس والخميصة اللتين أعطيهما أبي وعبادة من غير شرط ولأن ذلك قربة فلم يجز أخذ العوض عنها لا بشرط ولا بغيره‏,‏ كالصلاة والصيام ووجه الأول قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه‏,‏ وتموله فإنه رزق ساقه الله إليك‏)‏ وقد أرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي في أكل طعام الذي كان يعلمه إذا كان طعامه وطعام أهله ولأنه إذا كان بغير شرط كان هبة مجردة‏,‏ فجاز كما لو لم يعلمه شيئا فأما حديث القوس والخميصة فقضيتان في عين‏,‏ فيحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أنهما فعلا ذلك لله خالصا فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى ويحتمل غير ذلك وإن أعطي المعلم أجرا على تعليم الصبي الخط وحفظه جاز نص عليه أحمد‏,‏ فقال‏:‏ إن كان المعطي ينوي أن يعطيه لحفظ الصبي وتعليمه فأرجو إذا كان كذا ولأن هذا مما يجوز أخذ الأجر عليه مفردا فجاز مع غيره‏,‏ كسائر ما يجوز الاستئجار عليه وهكذا لو كان إمام المسجد قيما له يسرج قناديله ويكنسه‏,‏ ويغلق بابه ويفتحه فأخذ أجرا على خدمته أو كان النائب في الحج يخدم المستنيب له في طريق الحج‏,‏ ويشد له ويرفع حمله ويحج عن أبيه‏,‏ فدفع له أجرا لخدمته لم يمتنع ذلك -إن شاء الله تعالى-‏.‏

فصل‏:‏

وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة‏,‏ كتعليم الخط والحساب والشعر المباح وأشباهه وبناء المساجد والقناطر‏,‏ جاز أخذ الأجر عليه لأنه يقع تارة قربة وتارة غير قربة فلم يمنع من الاستئجار لفعله‏,‏ كغرس الأشجار وبناء البيوت وكذلك في تعليم الفقه والحديث وأما ما لا يتعدى نفعه فاعله من العبادات المحضة كالصيام‏,‏ وصلاة الإنسان لنفسه وحجه عن نفسه وأداء زكاة نفسه‏,‏ فلا يجوز أخذ الأجر عليها بغير خلاف لأن الأجر عوض الانتفاع ولم يحصل لغيره ها هنا انتفاع‏,‏ فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها‏.‏

فصل‏:

إذا اختلفا في قدر الأجر فقال‏:‏ آجرتنيها سنة بدينار قال‏:‏ بل بدينارين تحالفا ويبدأ بيمين الآجر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي لأن الإجارة نوع من البيع‏,‏ فإذا تحالفا قبل مضي شيء من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله وإن رضي أحدهما بما حلف عليه الآخر قر العقد وإن فسخا العقد بعد المدة أو شيء منها‏,‏ سقط المسمى ووجب أجر المثل كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه وهذا قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة إن لم يكن عمل العمل وإن كان عمله فالقول قول المستأجر فيما بينه وبين أجر مثله وقال أبو ثور‏:‏ القول قول المستأجر لأنه منكر للزيادة في الأجر‏,‏ والقول قول المنكر ولنا أن الإجارة نوع من البيع فيتحالفان عند اختلافهما في عوضها كالبيع‏,‏ وكما قبل أن يعمل العمل عند أبي حنيفة وقال ابن أبي موسى‏:‏ القول قول المالك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع‏)‏ وهذا يحتمل أن يريد به إذا اختلفا في المدة وأما إذا اختلفا في العوض‏,‏ فالصحيح أنهما يتحالفان لما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

وإن اختلفا في المدة فقال‏:‏ أجرتكها سنة بدينار قال‏:‏ بل سنتين بدينارين فالقول قول المالك لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله فيما أنكره‏,‏ كما لو قال‏:‏ بعتك هذا العبد بمائة قال‏:‏ بل هذين العبدين‏.‏ وإن قال‏:‏ أجرتكها سنة بدينار قال‏:‏ بل سنتين بدينار فهاهنا قد اختلفا في قدر العوض والمدة جميعا فيتحالفان لأنه لم يوجد الاتفاق منهما على مدة بعوض فصار كما لو اختلفا في العوض مع اتفاق المدة‏.‏ وإن قال المالك‏:‏ أجرتكها سنة بدينار فقال الساكن‏:‏ بل استأجرتني على حفظها بدينار فقال أحمد‏:‏ القول قول رب الدار‏,‏ إلا أن تكون للساكن بينة وذلك لأن سكنى الدار قد وجد من الساكن واستيفاء منفعتها وهي ملك صاحبها والقول قوله في ملكه‏,‏ والأصل عدم استئجار الساكن في الحفظ فكان القول قول من ينفيه‏.‏

فصل‏:‏

وإن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فالقول قول المستأجر لأنه مؤتمن عليها‏,‏ فأشبه المودع ولأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان‏.‏ وإن ادعى أن العبد أبق من يده‏,‏ وأن الدابة شردت أو نفقت وأنكر المؤجر فعن أحمد روايتان إحداهما أن القول قول المستأجر لما ذكرنا‏,‏ ولا أجر عليه إذا حلف أنه ما انتفع بها لأن الأصل عدم الانتفاع والثانية القول قول المؤجر لأن الأصل السلامة فأما إن ادعى أن العبد مرض في يده نظرنا فإن جاء به صحيحا فالقول قول المالك‏,‏ سواء وافقه العبد أو خالفه نص عليه أحمد وإن جاء به مريضا فالقول قول المستأجر وهذا قول أبي حنيفة لأنه إذا جاء به صحيحا فقد ادعى ما يخالف الأصل وليس معه دليل عليه‏,‏ وإن جاء به مريضا فقد وجد ما يخالف الأصل يقينا فكان القول قوله في مدة المرض لأنه أعلم بذلك‏,‏ لكونه في يده وكذلك إن ادعى إباقه في حال إباقه أو جاء به غير آبق ونقل إسحاق بن منصور عن أحمد‏,‏ أنه يقبل قوله في إباق العبد دون مرضه وبه قال الثوري وإسحاق قال أبو بكر‏:‏ وبالأول أقول لأنهما سواء في تفويت منفعته‏,‏ فكانا سواء في دعوى ذلك وإن هلكت العين فاختلفا في وقت هلاكها أو أبق العبد‏,‏ أو مرض فاختلفا في وقت ذلك فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العمل ولأن ذلك حصل في يده وهو أعلم به‏.‏

فصل‏:‏

إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره‏,‏ من غير عقد ولا شرط ولا تعويض بأجر مثل أن يقول‏:‏ خذ هذا فاعمله‏,‏ وأنا أعلم أنك إنما تعمل بأجر وكان الخياط والقصار منتصبين لذلك ففعلا ذلك فلهما الأجر وقال أصحاب الشافعي‏:‏ لا أجر لهما لأنهما فعلا ذلك من غير عوض جعل لهما‏,‏ فأشبه ما لو تبرعا بعمله ولنا أن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول فصار كنقد البلد وكما لو دخل حماما‏,‏ أو جلس في سفينة مع ملاح ولأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعويض فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك‏,‏ لم يستحقا أجرا إلا بعقد أو شرط العوض أو تعويض به لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد فصار كما لو تبرع به‏,‏ أو عمله بغير إذن مالكه ولو دفع ثوبا إلى رجل ليبيعه فالحكم فيه كالحكم في القصار والخياط إن كان منتصبا يبيع للناس بأجر‏,‏ فله أجر مثله نص عليه أحمد وإن لم يكن كذلك فلا شيء لما تقدم ومتى دفع ثوبه إلى أحد هؤلاء‏,‏ ولم يقاطعه على أجر فله أجر المثل لأن الثياب تختلف أجرتها ولم يعين شيئا‏,‏ فجرى مجرى الإجارة الفاسدة فإن تلف الثوب من حرزه أو بغير فعله فلا ضمان عليه لأن ما لا يضمن في العقد الصحيح‏,‏ لا يضمن في فاسده وإن تلف من فعله بتخريقه أو دقه ضمنه لأنه إذا ضمنه بذلك في العقد الصحيح‏,‏ ففي الفاسد أولى وقال أحمد في من دفع ثوبا إلى قصار ليقصره ولم يقطع له أجرا‏,‏ بل قال‏:‏ أنا أعطيك كما تعطى وهلك الثوب فإن كان بخرق أو نحوه مما لا تجنيه يده فلا ضمان عليه‏,‏ بين الكراء أو لم يبين والعلة في ذلك ما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

إذا استأجر رجلا ليحمل له كتابا إلى مكة أو غيرها إلى صاحب له‏,‏ فحمله فوجد صاحبه غائبا فرده‏,‏ استحق الأجر بحمله في الذهاب والرد لأنه حمله في الذهاب بإذن صاحبه صريحا وفي الرد تضمينا لأن تقدير كلامه‏:‏ وإن لم تجد صاحبه فرده إذ ليس سوى رده إلا تضييعه فقد علم أنه لا يرضى تضييعه فتعين رده والله أعلم‏.‏